أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 15th October,2000العدد:10244الطبعةالاولـيالأحد 18 ,رجب 1421

الثقافية

عبدالله البردّوني,, ورحيل استثنائي
علي زعلة
عبدالله البردوني، قمة شمخت حينا من الشعر حية، وستبقى شامخة أبد الدهر ميتة الجسد حية الإبداع والذكر,, وبعد عام على رحيله نزجي بين يديه هذه الوقفات المغضية حياء وهيبة.
1/5
أبو تمام وعروبة اليوم:


ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذب
وأكذب السيف إن لم يصدق الغضب
وأقبح النصر,, نصر الأقوياء بلا
فهم سوى فهم كم باعوا وكم كسبوا
قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا
شيئا كما أكلوا الإنسان أو شربوا
ما ذا ترى يا أبا تمام تسألني؟
عفوا سأروي، ولا تسأل وما السبب؟
يدمي السؤال حياء حين نسأله
كيف احتفت بالعدا حيفا أو النقب؟!
تسعون ألفا لعمورية اتقدوا
وللمنجم قالوا إننا الشهب
واليوم تسعون مليونا وما بلغوا
نضجا,, وقد عصر الزيتون والعنب!!

,, ولأن كثيرا من احكام المشهد الثقافي في وطننا العربي ما برحت مرتهنة بقطبية الأقاليم وافتقار التلميع لم يسمع كثير من الادباء والنقاد العرب فضلا عن الجماهير بشاعر العربية الكبير عبدالله البردوني الا عندما وقف منشدا قصيدته السابقة في مهرجان ابي تمام بالموصل عام 1971م على حين أن كثيرا من الحاضرين من عمالقة الأدب لم يكونوا يتوقعون وجود ذلك الاعمى المجدور على منصة المنشدين في المهرجان ببزته الشعبية وشعره المنكوش الا حركة مقصودة من المنظمين للدلالة على انهم يتحينون الفرصة لاي شاعر مهما كان متواضعا كصاحبنا!! للمشاركة في هذا الاحتفال العربي الكبير ولكنه ما ان اعتلى المنصة جالسا على رواية احمد الحاضرين وهو احمد عبدالمعطي حجازي وانشد معارضته لبائية ابي تماما حتى استدارت الاعناق اعجابا واتسعت الاحداق انبهارا واحمرت الوجوه حياء!! لقد كان يعارض احتفالية ابي تمام بفتح عمورية واما البردوني فقد كان يلقي قصيدته في وهدة الانكسار العربي,, بعد نكسة 67 م.
2/5
البناء والأسلوب:
البردوني وشعره بحران عميقان، ولذا فسوف لن نغوص كثيرا في قراءتنا هذه فهي اشبه بالتأبين منها بالقراءة، ويكفي ان نعرج على بعض اللمحات التي ميزت شعره ووضعته على قمة الهرم الشعري المعاصر.
** التزم البردوني في اشعاره بالوزن الخليلي الاصيل، وفي تلك القصائد العمودية تتجلى قدرة الشاعر الكبير على التداخل الحميمي العميق، وايراد المعاني الحديثة المتفجرة المسبوكة في لغة عصرية نابضة، لقد كان الشاعر العربي يعمل على ربط اجزاء قصيدته في كتلة بنائية واحدة ليتخلص من هشاشة البناء وتفكك الوحدة العضوية وذلك عن طريق ادوات الربط القديمة كالنداء والتعميم والارتكاز,, وغيرها، لكن البردوني وبخلاف اكثر الشعراء العمودين المعاصرين الذين لم تكن تخلو قصائدهم من الشكل القديم في البناء استطاع بموهبته الشعرية الدافقة وتمكنه من ادواته الفنية ان يوجد ترابطا عضويا بين اجزاء قصيدته البيتية بعيدا عن استخدام الادوات القديمة، وذلك من خلال انتظام البنية اللغوية وتناغم الايقاع الموسيقى غير المتكلف، والمتتبع لشعره يلمس ان هذه الميزة قد صبغت القدر الاوفر من قصائده ودواوينه.
* ومن ابرز ما يميز التجربة الفنية لدى البردوني ذلك الاسلوب القصصي الفريد الذي ينتظم شطرا كبيرا من شعره، القص المعتمد على الشخوص المستدعاة من الواقع او التاريخ او الخيال المحلق، وعلى الحوار الرشيق المتراقص بالايحاء والرمز، ولتسمع اليه يحكي قصة يمنيين مغتربين التقيا في احد الموانئ العالمية:


من ذلك الوجه؟ يبدو انه جندي
لا بل يريمي سأدعو جد مبتعد
عرفته يمنيا,, في تلفته
خوف وعيناه تاريخ من الرمد
من اين يا ابني؟ ولا يرنو، واسأله
ادن قليلا: صباح الخير يا ولدي
يسعد صباحك يا عمي، اتعرفني؟!
فيلك اعتنقت انا قبلت منك يدي
وكيف كنتم تنوحون الرجال؟!
بلا نوح نموت كما نحيا بلا رشد!!

والحديث عن اسلوبية البردوني وبنائه الشعري في مثل هذه الملحمة ضرب من الاساءة الى ذلك الهرم الفني الشامخ، وحسبنا ان نقول ان البردوني بشعره العمودي قد تجاوز بل خرج على كل التقاليد البنائية والاسلوبية والمعنوية خروج تطوير وارتقاء لا خروج ثورة وهدم، وهذا هو جوهر الخلاف بينه وبين اولئك الذين اتجهوا الى حداثة الشكل مع بقائهم في دائرة المعاني القديمة الاكثر استهلاكا,, وتخثرا.
3/5
الصورة الشعرية:
البردوني شاعر يمني عربي، له نفس شفيفة ترتسم في حجراتها هموم امته ومآسيها، سيما وقد عاش حقبة انفرط فيها عقد المآسي العربية المتتابعة، فجاءت صورته الشعرية ذاتية كئيبة، ولا ريب فانما هي انعكاس للمسيرة العربية العاثرة، ورجع لزفراتها الحرى وصدى لاناتها الواهنة:


يا رفاقي ان احزنت اغنياتي
فالمآسي حياتكم وحياتي
ان همت احرفي دماً فلأني
يمني المداد,, قلبي دواتي
أنا أعطي ما تمنحون احتراقي
فالمرارات بذركم ونباتي
غير اني ومدية الموت عطشي
في وريدي اشدو فألغي وفاتي
قد تقولون ذاتي الحس لكن
اي شئ احس؟ من اين ذاتي؟!

لم تكن الصورة الشعرية لدى البردوني ترفا شعريا ولا غطاء بديعيا ولكنها ذات وظيفة تعبيرية تؤدي عن اعماق النفس وخلجات الفكر ما لا سبيل الى تأديته إلا عن طريق الصورة، من مثل تلك الحالات الشعورية البعيدة عن الادراك المباشر للحواس، لو تقرأ معي هذه الابيات التي يصور فيها حالة الخلق وارهاص الابداع في نفس الشاعر:


يا صمت ما احناك لو تستطيع
تلفني او انني,, استطيع
لكن شيئا داخلي يلتظي
فيخفق الثلج ويظمى الربيع
يبكي,, يغني,, يجتدي سامعاً
وهو المغني والصدى والسميع!

لقد كان لثقافة البردوني الشعرية الكثيفة اثر جلي في تأليف صوره الشعرية الموحية العميقة.
4/5
استدعاء العناصر التاريخية:
وباسهام من اطلاعه الواسع على التاريخ الانساني بقاماته وشخصياته فقد بدأ اثر ذلك في بعض اغراضه الشعرية وافكاره الموضوعية، وبخاصة تلكم الشخصيات المثيرة في الادب العربي ك ابي الطيب، وابي تمام، وابي نواس,, وغيرهم وزحف هذا التأثر حتى اطل من خلال شعره، معارضة ومطارحة وحوارا، اضافة الى انه لم يتوقف في معارضته عند حدود اتفاق الوزن والقافية، بل كان يستلهم تلك الرموز التاريخية وظلالها في مناقشته لقضايا معاصرة، وفي قصيدته التي اوردتها في مستهل هذا الحديث اجلى مثال, وللشاعر قصيدة اخرى يذكر فيها ابا الطيب المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس قائلا:


من تلظي لموعه كاد يعمى
كاد من شهرة اسمه لا يسمى
جاء من نفسه اليها وحيدا
راميا اصله غبارا ورسما
جرب الموت محوه ذات يوم
والى اليوم يقتل الموت,, فهما

ولعل الشاعر البردوني قد اتخذ من هذه القامات الادبية وامثالها رفقة حرف وندامى فكر يختلي بطيوفهم ساعة تسود النهارات وتغرب الشموس في مساء الواقع البائس.
5/5
الشاعر الانسان:
وبالرجوع الى سيرة الشارع ونشأته تجد انه من أسرة فقيرة متواضعة، فانطبعت هذه السجية على نفس ذات الصبي وامتدت معه حتى كبر وذاع صيته واضحى موضع تكريم واحتفاء في المجتمع وفي الوسط الادبي، فقد كان ملتصقا بالفقراء والضعاف، يحس ابدا بانتمائه الى تلك الطبقة حتى انه حين طبع دواوينه كانت تباع بأزهد الاثمان كما هو معروف لتصل الى اولئك الناس الذين قعدت بهم الجدة.
ولشاعرنا الكبير اضمامة وافرة من القصائد التي تضج بالمشاعر الانسانية النبيلة المخلصة، ولعلنا نختار في ختام هذا الحديث ابياتا من قصيدة على لسان امرأة الفقيد :


لم لا تعود؟ وعاد كل مجاهد
بحلى النقيب او انتفاخ الرائد
ورجعت انت توقعا لملمته
من نبض طيفك واخضرار مواعدي
وعلى التصاقي باحتمالك اقلقت
عيناي مضطجع الطريق الهامد
والى انتظار البيت عدت كطائر
قلق ينوء على جناح واحد

وبعد فان كلمات موجزة كهذه لا تفي شاعرا بقامة عبدالله البردوني شيئا من حقه، وحسبنا اننا فقدنا برحيله واحدا من آخر هامات الاصالة الرصينة والحداثة الواعية، لقد رحل في فصل خريفي وتهاوت مع اوراقه عالية وقمم سامقة في فضاء الفكر العربي، ولكن هل ثمة عوض؟! حتما نعم، فالامة الولود التي انجبت فلانا وفلانا من العمالقة قادرة باذن الله ان تبعث فينا من امثالهم بدلا، يحملون الالوية ويواصلون المسيرة,, رغم شح القطر وغياب التباشير,, ولا ازيد.
azalh @ hotmail. com

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved