| مقـالات
أسطورة سيزيف طنينٌ لا وجودي (1) للأديب الوجودي ألبير كامو (2) الروائي الكاتب المتفلسف الفرنسي (1913 1960م),, كان مولده ببلد عربي هي الجزائر، ونشأ بها وتعلم بجامعاتها,, التحق بالحزب الشيوعي عام 1935م، ثم تركه بعد سنة.
كان نشاطه المسرحي خلال سنوات فيما بين 1934 1938م هن بداية حياته العلمية، ثم كان صحفياً صرف نشاطه الصحفي بباريس، وشارك في المقاومة الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان محرراً في جريدة قتال أو كفاح (3) كما أعرب عن ذينك المترجمون مع الفارق بين المفردتين في العربية حتى صار رئيس تحريرها عام 1945م لمدة ثلاث سنوات، وصرف جهده إلى القصص والكتابة الفنية المتخمة بالفلسفة والجانب الأدبي الفكري، وقدم للمسرح عدداً من التمثيليات، وكانت قضيته الفكرية اللاجدوى والعبثية تمثُّلاً للمناحة الوجودية، ولكنه أراد بزعمه وجوداً أصيلاً ينتشله من عبثية الوجود؛ فتوسل لذلك بخطوتين:
أولاهما: الوعي الذاتي بالعبثية التي سماها أسوارا كآلية الحياة اليومية الرتيبة,, يقول: حين تتحطم سلسلة الحركات اليومية,, حين يفتش القلب عبثاً عن الرابطة التي تربطه ثانية: فإن ذلك يشبه العلامة الأولى من علامات اللاجودى؛ فيحدث أن مَشاهد المسرح تتهدم: النهوض، الباص، أربع ساعات في الدائرة أو المصنع، وجبة الطعام، الباص، أربع ساعات من العمل، وجبة الطعام، النوم، والاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس، الجمعة، السبت,, طبقاً للنسق نفسه,, من الممكن السير في هذه الطريق بسهولة دائماً؛ ولكن في يوم من الأيام تنشأ لماذا، ويبدأ كل شيإٍ من ذلك الضجر بالاصطباغ بالدهشة,, يبدأ!!,, هذا هوالمهم؛ فالضجر يأتي في نهاية أفعال الحياة الميكانيكية، ولكنه في الوقت نفسه يفتتح حافز الإدراك، ويثير ما يتبع ذلك (4) ,, ومن تلك الأسوار الزمن، وغرابة الأشياإ، وسخف الوضع الإنساني.
وأخراهما : التمرد الميتافيزيقي,, وهذا التمرد سفسطة عقلية؛ لأن العقل عنده عاجز عن إدراك الحقيقة، ولكنه مطلوب حضوره بحرية سلوكية؛ ولهذا كان الوعي عنده حضور عقل,, قال روبير دولوبيه ملخصا مذهب كامو في هذه المسألة: الحياة بلا معنى، ومع ذلك يجب أن تُعاش,, والعقل لا يُشبع شوقنا الجامح إلى المعرفة، ورغبتنا في امتلاك الحقيقة,, لكن علينا ألا نرفضه، لأننا لا نمتلك سواه (5) ,,, وبهذه الفلسفة الأسيرة بالحسبانية تظاهرت فلسفته برفض الانتحار، وتمجيد الحياة.
ومن تناقضه أنه تبعاً لرفضه الانتحار رفض الجريمة، ثم تناغم مع الصحفي آرثر كوستلر الذي أكثر الضجيج عام 1955م مطالبا بإلغاإ عقوبة الإعدام؛ فلما رفض مجلس اللوردات المحافظ موافقة مجلس العموم البريطاني على إلغاإ العقوبة هبَّ كامو عام 1957م؛ فأصدر كتاب المقصلة مؤيدا للصحفي آرثر كوستلر (6) .
قال أبو عبدالرحمن: لا أعلم معنى لرفض كامو للجريمة وهو يجنِّد فكره لإلغاإ عقوبتها العادلة الرادعة!!.
وألغى كامو من فلسفته ثنائية سارتر، وهي الوجود الإنساني والماهية، وأن الإنسان يخلق ما هيته، ولهذا تأتي تالية للوجود، ولقد ناقشتُ هذه الفلسفة المريضة في مقدمة كتابي الالتزام والشرط الجمالي ؛ ولهذا فالتمرد الميتافيزيقي بزعم كامو يعمل ولو في لحظة على اتحاد المتمرد بشيإٍ نبيل في داخله,, إنه الماهية الإنسانية التي رفض سارتر ان تكون سابقة,, وبهذا السبب ومن أجل شكل الوجودية لدى كامو حصلت القطيعة بين سارتر وكامو عام 1951م، وهو العام الذي أصدر فيه كامو كتابه المتمرد.
وجَمعُ كامو بين الإيمان بالعبثية، وجدوى التمرد، وقبول العقل (بحريةِ سلوكٍ لا ضرورة فكرية) ميوعة تشبه قوله: لا أُأمن بالله، ولكنني لست ملحداً!!,, فهذا مثل قوله: العقل ليس بحجة، ولكنني لا أرفض العقل!!,, وهكذا يتخبط العالَم فكرا لا تصنيعاً واكتشافاً بالخبال، ويعتبرونه فكراً وفلسفة,, والجنون فنون.
يقول كامو: المتمرد الميتافيزيقي ليس ملحداً على وجه الدقة كما نعتقد، ولكنه حتماً لا يحترم المقدسات !! (7) .
قال أبو عبدالرحمن: الإيمان والإلحاد بالاعتبار الفكري ذاته كالحياة والموت ليس بينهما ثالث مرفوع,, وما أملح هذه الكلمة للدكتور حسن حماد,, قال:التمرد بهذه الصورة الضيقة يخلو تماماً من أية مضامين اجتماعية وسياسية وحياتية، ويحيل كل شيإٍ إلى القدر، وإلى الله باعتباره مسأولا عن كل ما يحِلُّ بالبشر من عذابات,, والتمرد على هذا النحو يتحرك في فلك كوني وسماوي،ويسبح في عالم من التراجيديا اليونانية البعيدة كل البعد عن عالمنا التاريخي المليإ بالمتناقضات؛ ومن ثم فهو يستنفد أغراضه، ويبدد طاقاته في الثورة ضد عالم السماإ؛ ولذلك يبقى تمرد كامو ثورة خارج التاريخ (8) .
قال أبو عبدالرحمن: خلَق الله للإنسان قدرتين يملك بهما الاختيار في تحمل المسأولية، وجعل العقل شرطاً للمآخذة، وأخبر شرعه المطهر بظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس,, والتمرد على الفكر، والتقمُّص بالحسبانية، وجحد الماهية الإنسانية ذات النازعين وأحدهما يستجيب لإيجابية الفكر، وتربية المصلحين : نَزعٌ لصمام الأمان، وتصميم على التخلي عن المسأولية بشرطها المعتبر.
وتمرد كامو من أجل هموم حيوية مع أن موقفه من تحرر الجزائر كان خائباً كالحب والحرية، والتصدي لذلك،وبلسمة الجراح، والتضامن على إسعاد البشرية: لا يكون بعقيدة عبثية يكون العقل فيها راحلة هزيلة مع العلم مسبقاً بضعف جدواه.
وكما أسلفت فكامو حاوي فلسفة، وأديب (9) ,, ومن أهم ما في المعجم الفلسفي السيزيفي ولا أقول أكثره الفيلسوف الروسي غير المشهور ليون جيستوف، ويبدو أن كامو حاوياً له؛ فقد وصف مؤلفاته بالرتابة والروعة معاً,, إنه يصف مألفاته ويحكم عليها، ولم يصف واحداً فقط,, أعجبه من جيستوف حكمه العدمي بأن أحكم الأنظمة،وأشد المعقولية عمومية (10) : تتهاوى دائماً أمام لا معقولية الفكر البشري.
وأعجبه التأكيد على فكرة عبَّر عنها كامو بأسلوب متناقض، وهي أن جيستوف لا يُغفل حقيقة من الحقائق المتعارضة الساخرة في ذاتها، أو المتناقضات المضحكات التي تحط من قيمة العقل؛ ولهذا يهتم بشيإٍ واحد هو الشاذ في دنيا القلب أو الذهن,, إنه ينكر على القلب أسبابه (11) .
وأعجبه من جيستوف استسلام الكافر الساخر لا المؤمن المغتبط عندما قال: الحل الصحيح (12) الوحيد هو بالضبط حيث لا يرى الرأي البشري أي حل؛ وإلا فلماذا كنا سنحتاج إلى الله؟!,, إننا نعود إلى الله فقط لنحصل على المستحيل,, أما بالنسبة للممكن فالبشر يكفون ,, قال كامو عن هذه العبارة الكافرة: وإذا كانت هناك فلسفة جيستوفية فيمكنني أن أقول: إنه يمكن تلخيصها بتلك العبارة !!,, إن مرد اللاجدوى المزعومة في الوجود كما يقول جيستوف إلى الاستسلام ,, ثم نقل عنه كامو كلاماً في حق ربنا سبحانه تقشعر منه الجلود، ويصف اللاجدوى التي وصفها بالمستحيل بأنها أوهام معقولة، وأن إدراكها يسمو إلى درجة قبولها؟!.
ويمنح كامو إبليسه جيستوف هذا الحكم القطعي: إنني أعرف أن المعلِّل العقلي يتضايق من موقف جيستوف,, ولكنني أشعر أيضا بأن جيستوف محق أكثر من المعلل العقلي، وأريد فقط أن أعرف هل يظل مخلصاً لوصايا اللاجدوى ,, وهكذا يصبح شعور كامو برهاناً!!.
قال أبو عبدالرحمن: كان الفيلسوف الألماني الكبير أمانوئيل كانط مراوغاً في إلحاده، وقد اعترف بالرب سبحانه بحرية سلوك لا بضرورة فكرٍ؛ لأن في الإيمان به صلاحا للأخلاق!!.
وبهذا الكفر الذي يسمونه إيمانا انتهى جيستوف في تعليل موجزُهُ: إذا شعرنا بأن البقاأ يعني أنه لن تكون هنالك حاجة للموافقة على اللاجدوى: فيمكننا أن نرى بوضوع أن اللاجدوى تكون قد فقدت مظهرها الصحيح؛ فهي بمعنى: هو غير مفهوم، ولكنه مرضٍ .
قال أبو عبدالرحمن: هذه الجملة تساوي النتيجة الكانتية: قد يكون الاعتقاد بالله وهم، ولكنه خير؛ لأن به صلاح الاعتقاد!!,, ومع هذا فقد غضب كامو من إبليسه جيستوف بسبب هذا الإيمان العظيم!!,, قال كامو: هذه البراعة في التفكير هي خدعة رجل التمائم والتعاويذ العاطفية (13) .
قال أبو عبدالرحمن: يا ليتنا نلمس وجه البراعة الفكرية في هذا!!.
ويعيدنا كامو إلى معجم فلسفي أدبي في آن واحد؛ ليأخذ منه رموز أفكار سوغت لجيستوف مذهبه، أو أعانته عليه,, قال: وخلال التجارب الدوستويفسكية عن الإنسان المحكوم، والمغامرات المؤلمة التي يقوم بها الذهن النيتشي، واللعنات الهاملتية أو ارستقراطية ابن المريرة : نجده يتعقب، ويسلط الأضواأ، ويضخم الثورة البشرية ضد مالا يمكن تغييره,, إنه ينكر على العقل أسبابه، ويبدأ بالتقدم ببعض التصميم فقط وسط تلك الصحراإ التي لا لون لها، حيث يصبح اليقين أحجاراً (14) .
وقال عن كفر جيستوف الذي أغضب كامو؛ لأنه غير مطلق: فإذا كانت هنالك لا جدوى فهي في كون الإنسان,, وفي اللحظة التي تحوِّل فيها الفكرة نفسها إلى نابض الأبدية: فإنها تكف عن الارتباط بالوضوح البشري، ولا تكون اللاجدوى حينذاك الدليل الذي يتأكد منه الإنسان بدون أن يتفق معه، ويتم تجنب الصراع، ويتحد الإنسان مع اللاجدوى؛ وبذلك يجعل صفات اللاجدوى الأساسية تختفي,, وتلك الصفات هي المضادة وبث الكآبة والافتراق,, وهذه القفزة هي تخلص,, كما أن جيستوف (المولع جداً بعبارة هاملت: العصر مزعزع): يسجل ذلك بما يشبه الأمل الوحشي الذي يلوح أنه يخصه هو؛ ذلك لأن هاملت لا يقصد ذلك في قوله هذا، وشكسبير لا يهدف إليه,, إن الانتشاأ باللامعقولية، والغبطة المذهلة: يحولان الذهن الواضح عن اللاجدوى,, وليست للعقل جدوى عند جيستوف، ولكن هناك شيأٌ وراأَ العقل، والعقل لا يجدي شيأً بالنسبة للذهن اللامجدي، وليس هنالك شيأٌ وراأَ العقل بالنسبة لهذا الذهن (15) .
ولك أن تسأل كيف التقى جيستوف مع كامو في وجوديته؟,,والجواب أن اللاجدوى عند جيستوف في النصوص التي أوردها كامو حاصلة من القلق البشري حول معرفة كل شيإٍ في الوجود، وهذا من مصادر النواح لدى كامو,, أو لم يقل: من الضروري اعتبار الحلقة المفقودة دائما بين ما نتصور أننا نعرفه وبين ما نعرفه بالفعل,, بين القبول العملي والجهل المدعى به، والذي (16) يسمح لنا بأن نعيش مع الأفكار التي إذا وضعناها موضع الاختبار حقاً فإنها يجب أن تقلق حياتنا كلها,, من الضروري اعتبار تلك الحلقة المفقودة المسألة الدائمة التي يشير إليها هذا البحث؛ فبمواجهة هذا التناقض الذهني الذي يمكن حله: سندرك بصورة كاملة تلك العزلة التي تفصلنا عما نخافه,, وما دام الذهن صامتاً في عالم آماله الراكد فإن كل شيإٍ يجري تأمله وتنظيمه في وحدة حنينه، ولكن بحركته الأولى يتهاوى هذا العالم ويتهدم، ويظهر أمام الفهم عدد لا نهاية له من الشظايا البراقة,, يجب علينا اليأس من إمكانية إعادة بناإ السطح المألوف الهادإ الذي يمكن ان يهبنا راحة القلب؛ فبعد كل هذه القرون من التساأُل، وكل هذه الأمثلة على ما قام به المفكرون من تنازل عن الحياة: ندرك جيداً أن هذا يتطبق على كل معرفتنا؛ فباستثناإ المعللين المحترفين صار الناس اليوم ييأسون من المعرفة الحقيقية,, ولو كان السجل الوحيد (ذو المغزى للفكر البشري) سيكتب؛ فإنه يجب أن يكون تاريخ أسفه المتعاقب،ولا قدرته.
عمَّن، وعماذا يا ترى أستطيع أن أقول حقاً: أعرفه!؟,, إنني أستطيع أن أشعر بهذا القلب بيني (17) ، وأستطيع أن أحكم بأنه موجود,, أستطيع أن ألمس هذا العالم، وأحكم كذلك أنه موجود,, وهنا ينتهي كل المعرفة، وما يتبقى هو تركيب، لأنني إذا حاولت أن أقبض على هذه النفس التي أشعر بأنني متأكد منها، وإذا حاولت أن أعرفها وألخصها: فإنها ليست غير الماإ الذي ينساب من بين أصابعي,, أستطيع أن أُلخِّص كل المظاهر التي تستطيع أن تأخذها واحداً واحداً، وكل المظاهر التي تُعزى إليها هذه النشأة وذلك الأصل,, تلك الحماسة، وذلك الصمت، وذلك النبل، وتلك الحقارة,, ولكننا لا نستطيع ان نجمع المظاهر,, وذلك القلب الذي هو قلبي سيظل أبداً غير معروف بالنسبة لي,, وبين اليقين الذي أراه في وجودي والمحتوى الذي أريد أن أعطيه لليقين ثغرة لن تُملأ قط,, وسأظل أبدأ غريبا عن نفسي,, وهنالك في علم النفس (كما في المنطق) حقائق، ولكن ليست هناك حقيقة (18) .
ويقول: وفي المرحلة الأخيرة تعلمني ان هذا الكون العجيب المملوإ بمختلف الألوان يمكن ان يُقلَّص إلى ذرة، وأن الذرة نفسها يمكن أن تقلص إلى الكترون,, وكل هذا حسن، وأنا في انتظار أن تستمر,, ولكنك تخبرني عن نظام كوني غير مرئي تنجذب فيه الإلكترونات إلى نواة، وأنت تفسر لي هذا العالم بالصورة، وأدرك حينئذ أنك تقلصت إلى حد الشعر (19) ، وأنني لن أعرف,, وهل يتاح لي الوقت لكي أستاأ؟!,, لقد غيَّرتَ أنت النظريات بحيث أن العلم الذي كان سيعلمني كل شيإٍ انتهى إلى فرضية، وبحيث أن الوضوح صار يتعثر في التشبيه، وبحيث أن عدم اليقين تتم الإجابة عنه في عمل فني؛ فما حاجتي إلى كل هذه الجهود؟,, إن الخطوط الناعمة لهذه التلال، ويد المساإ على هذا القلب القلق يعلماني أكثر,, لقد عدت إلى بدايتي,, إنني أدرك أنني إذا كنت سأقبض على الظواهر وأحصيها بواسطة العلم فإنني لا أستطيع (مع كل ذلك) أن أفهم العالم,, ولو كنت سألمس كيانه كله بأصبعي فإنني لن أعرف أكثر,, وأنت تخيرني بين وصف هو أكيد ولكنه لا يعلِّمني شيأً، وبين فرضيات تدَّعي بأنها تعلمني ولكنها ليست أكيدة,, غريب عن نفسي، وغريب عن العالم,, مسلح فقط بفكر ينفي نفسه في اللحظة التي ينطق فيها ببيان ما ,,ترى ما هي هذه الوضعية التي أستطيع أن أجد فيها السلام فقط (يرفض أن أعرف، ويرفض أن أعيش)، والتي تنفذ فيها شهوة الغلبة عبر أسوار تتحدى هجماتها,, أن أريد هو أن أثير المتناقضات، وكل شيإٍ هو منظم بحث إنه يأتي بذلك السلام المسموم الذي هو وليد: اللاتفكير، واللامبالاة، وإغفاإ القلب، والاعتزال القاتل.
وهكذا فإن الإدراك أيضاً يخبرني بطريقته بأن هذا العالم لا مُجدٍ؟,, أما عكس الإدراك (أي العقل الأعمى) فقد يدعي أن كل شيإٍ واضح,, لقد كنت انتظر البرهان وأتمنى ان يكون صحيحاً، ولكن بالرغم من هذا العدد من القرون الدعية، وفوق رأُوس هذا العدد من المقنعين والبلغاإ: فإنني أعرف أنه زائف,, وعلى هذا المستوى على الأقل ليست هنالك سعادة إذا لم يكن في وسعي أن أعرفها (20) .
قال أبو عبدالرحمن: وأعود إلى كليمة جيتسوف الكافرة عن المحال الذي فوَّضه إلى الله؛ فأبيِّن أن المحال يتعلق بالوجود,, تقول: محال أن يوجد، أو محال ألا يوجد,, ويتعلق بالمعرفة؛ فتقول محال أن يُعرف بإطلاق، أو محال أن أعرفه,والبشر محدودو العمر، ومحدودو المعرفة، وهم في تربية ناجحة، أو فاشلة تتدرج بين المهد واللحد، وهم لا يخلقون ما يعرفونه،ولكنهم يكتشفونه، والله سبحانه محيل عليهم أن يعرفوا كل شيإ، لأن الكون أفسح وأعجب من جهدهم وإدراكهم,, وأذن لهم بأشياأ يعرفونها حقيقة أو ظاهراً,, والعقل المخلوق جزأٌ من الطبيعة المخلوقة له قوانينه التي تدرك ما هو في المشاهدة على ما هو عليه وفق وضعيَّةِ قُوَى الإدراك نفسها، فواقع القمر حقيقي كما نراه بالعين المجردة، وهو حقيقة كما نراه بالتلسكوب، وهو حقيقة كما نلمسه,, إن الوقائع مختلفة، ولكنها كلها حقيقية بالنسبة لكل قوة من قوى إدراكنا,, والخارج عن ذواتنا منه ما تحيله ضرورة الفكر، ومنه ما توجبه، ومنه ما تجعله في حيِّز الإمكان,, ومن الموجود ما نعرف وجوده فحسب، ومنه ما نستنبط نزراً من صفاته بآثاره، ومنه ما نعرف وصفه بالخبر الضروري الصادق، ومنه ما نعلم كيفيته,, ومن علمنا ما هو جزئي، ومنه ما هو كلي من ناحية الظاهرة,, والتغير الآني قد نعلم شيأً منه بوسائل العلم المادي الجبارة، ومنها ما نحقق وجود صيرورته ولا ندركها في آنها,, وخالق الوجود أخبرنا أننا لا نعلم مهما تجبَّر علمنا وطغى إلا ظاهراً من الحياة الدنيا.
وما كان محالاً على جيستوف وكامو معرفته فليس محالاً وجوده، بل محالة معرفته في جوهرها وصيرورتها؛ لأن لله غيباً لا يطلع عليه أحداً، وله غيب عن بعض خلقه بإطلاق، وله غيب عن بعض خلقه إلى أجل.
إن الإحالة إلى الإدراك البشري الناقص، وليست إلى الله سبحانه الخالق المحيط علماً بكل شيإ,, وإحالةُ العقلِ هي في ذاتها عِلمٌ لما لم تُوجد الوسيلةُ إلى تكييفه,, هي علم في ذاتها، فالعقل يعلم على كل تقدير؛ ولهذا صار شرط تكليف.
إن فلسفة اللاجدوى تُسقط وجود وحُجِّية ما هو معلوم، وتجعل إحالة تكييف ما لم يعلم كيفية بعدُ حجةً على إحالة ما عُلم,,وهذا انتقاأٌ سلوكي، وليس حتمية فكر.
إن الكون المنظور، والعقل الذي نمارسه هو الجدوى كلها في سعادتنا وغبطتنا وصبرنا وفألنا؛ لأنه يهدي سلوكنا مدى أعمارها، ولأنه يقضي لنا بما يجب علينا الاهتداأُ به من الإيمان واتباع الشرائع وفضائل الأخلاق,, وليس شرط الانتفاع به اصطناع العبثية عقيدة، واصطناع التمرد سلوكاً,, وهو سلوك في ظل حسبانية مصطنعة أيضاً,, وإنما شرط ذلك الصدق مع النفس والفكر، وإعطاأُ كل معروف حجمه المعرفي تبعاً لقوى إدراكنا الكلية أو الجزئية,, الجوهرية أو الظاهرية,, وما علمنا وجوده قد نعلم بكيفيته، وقد نعلم بوصفه دون معاينة، وقد نستنتج شيأً من وصفه بآثاره.
وأما التناقض بالأوهام غير المعقولة فقد ذكرت نماذجه السلوكية اللامسأُولة بإيمان أمانوئيل كانت، وباستعارة كامو العقل مع الإيمان المسبق بأنه غير موصل، وبأنه لا يُأمن بالله ولكنه غير ملحد!!.
إنهم هم أنفسهم يعبثون بالوجود وبوسائل الهداية.
وأما ثلاثية دوستويفسكي ونيتشه وشكسبير فلها مناسبة تأتي إن شاأ الله.
***
الحواشي:
(1) لأن الفيلسوف والأديب الوجودي اصطلاحاً يعيش العدمية، واللاجدوى، والغثيان، والخواأ الذي لا قعر له، والانتحار الفلسفي.
(2) كامو أديب ذو نثر سيال، ودارس فلسفة مال للمذهب الوجودي بمناحة رومانسية، وهو أحد المصادر أسلوبياً لملحدٍ في شرقنا العربي هلك منذ أكثر من سنتين، وسوَّد الصحف بالعويل الرومانسي احتجاجاً على خالقه، وكأن الوجوديين أقل كفراً منه؛ لأن ظاهر كفرهم مناحة على ما زعموه عبثية وجود,, وملحدوهم يميلون إلى إنكار الخالق، وهم أقل عتاباً للخالق سبحانه,, واقتصدت بعبارة عتاب ؛ لأن لساني لا يقوى على أكثر من ذلك.
(3) اسمها بالأجنبي كومبا كما في الموسوعة الفلسفية ص387.
(4) أسطورة سيزيف ص21.
(5) الاغتراب الوجودي للدكتور حسن حماد ص118 عن كتاب كامو والتمرد لروبير.
(6) المقصلة ص7/ من عمل المترجم.
(7) الاغتراب الوجودي ص126.
(8) الاغتراب الوجودي ص126 127,, قال أبو عبدالرحمن : إذا كانت عبارة المصدر السابق تساوي في كميتها عنوان المصدر، أو أكثر منه: فالأولى كتابة اسم المصدر كاملا مهما تكرر.
(9) قال أبو عبدالرحمن : ليس هذا مجال لدراسة كامو، أو التعريف به,, إلا أن إلقاأ التصور ضروري، ولخصت ما سقته من معايشة لكامو في سياقه الفكري، ومن تعريفات بارعين أرَّخوا للفلسفة الحديثة، ولخصوها تلخيصاً جيداً، وفرقوا بين الأفكار المتقاربة كفكرة الوجود يسبق الماهية، وفكرة الوجود هو الماهية,, وهناك إفادات تاريخية من كتب معاجم ومصطلحات في الفلسفة والأدب منها كتاب المعجم الأدبي لجبور عبدالنور ص556 558، وقد لخص رواية الطاعون لكامو، وقد كتبها كامو سنة 1947م,, ومعجم الفلاسفة لجورج طرابيشي ص512، والمعجم المفصل في الأدب للدكتور محمد التونجي 2/720، والموسوعة الفلسفية بإشراف م, روزنتال، وب,يودين ص387.
وكُتب عنه الكتب التالية: ألبير كامي للدكتور عبدالمنعم الحفني/ دار الفكر بالقاهرة عام 1963م، وألبير كامو لجرمين بري ترجمة جبرا إبراهيم جبرا/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت عام 1981م،وكامو والتمرد لروبير دولوبيه ترجمة الدكتور سهيل إدريس/ سلسلة قضايا النقد المعاصر ببيروت عام 1955م، وألبير كامي وأدب التمرد لجون كروكشانك ترجمة جلال العشري/ الوطن العربي، وجمع سيرته بقلمه مورفان لوبيك، وصدر عن المنشورات العربية بترجمة إلياس خليل,, أما ما كتب عنه في تضاعيف الكتب، وفي الدوريات فلا يكاد يحصى.
وصدر من كتبه معرباً أسطورة سيزيف بترجمة أنيس زكي حسن،والسقطة بترجمته أيضا، وأعراس، والمقصلة,, وكلاهما بترجمة جورج طرابيشي، والمنفى والملكوت بترجمة خيري حماد,, وكلها صدرت عن دار مكتبة دار الحياة ببيروت ,, وأسطورة سيزيف من أهم أعماله نشره عام 1943م,, وصدرت رواية الطاعون عن المكتبة الثقافية ببيروت، وبترجمة الدكتور سهيل إدريس عن دار الآداب، وأيضا عن طلاس للدراسات والترجمة والنشر بدمشق، والغريب وقصص أخرى بترجمة عايدة مطرجي إدريس/ صدر عن دار الأدب، والإنسان المتمرد ترجمة نهاد رضا من سلسلة زذني علماً منشورات عويدات ببيروت طبعتهم الثالثة عام 1983م,, ونال جائزة نوبل عام 1957م.
(10) يعني ما هو أكثر عمومية من الأشياإ المعقولة عند من يعتد بمعقوليتها.
(11) انظر أسطورة سيزيف ص34.
(12) قال أبو عبدالرحمن: من أين عرفنا معيار الصحة ونحن في خضم حسبانية تقول: العقل لا يعرف؟!!.
(13) انظر أسطورة سيزيف ص42 46.
(14)أسطورة سيزيف ص34.
(15) أسطورة سيزيف ص44.
(16) الأفصح: وهو الذي.
(17)الأفصح: بين جنبيَّ.
(18)أسطورة سيزيف ص27 28.
(19) سياقه عن الشعر والتشبيه والفن والإقناع والبلاغة ودعاوى القرون؛ فالمسألة تخييل وليست برهاناً,, وهكذا تكون حقائق العلم تخييلاً عند معتمدي العبث بالعقول، وهم يقابلون البرهان والإجماع بالمغالطة والحسبانية القاصرة عن الخطاب الشعري الذي أنكره هو!!.
(20) أسطورة سيزيف ص28 30.
|
|
|
|
|