| شرفات
عندما يصبح الاحساس جامحا متوترا,, نقيا كالبلور,, تبدأ غادة نبيل في تشكيله بالحروف والكلمات,, في عينيها يكمن سحر الشرق وتوق دائم الى مدن بعيدة الى مرفأ حنون وانسان حقيقي,, عالمها بسيط ظاهريا، يستدرج المتلقي رويدا رويدا,, ليفاجأ بمدن تتداعى وتواريخ واسماء وعلامات تأتي من هنا وهناك,, فيضان ناري من الرؤى,, ضد الخوف والسكون والزيف وفقد الأحباب.
انهمكت غادة نبيل طويلا في العمل الصحفي والثقافي,, وفي الترحال من مكان الى آخر,, فقد درست في طفولتها باسكتلندا وحصلت من جامعة الكويت على بكالوريوس في العلوم السياسية بمرتبة الشرف,, ثم ماجستير في الأدب المقارن من جامعة ايست انجليا بانجلترا ومنحة فولبرايت للاعلاميين الأفارقة بأمريكا,, واخيرا جلست في ركن صغير وكتبت باحساس مختلف ديوانها الاول المتربصة بنفسها .
حين تتربص المرأة بنفسها
* في ديوانك المتربصة بنفسها يبدو الى حد كبير حالة الزخم وتشعب مصادر الابداع سواء من الثقافة الآسيوية او اللاتينية أو العربية؟
الديوان يمكن ان يكون قراءة لنفس هي أنا ومعي الآخرون ايضا يسيلون على قراءاتي وعلى ذكرياتي لا انظر بكبير قلق الى معجم الكلمات الاجنبية, فلقد تعرفت على الكثيرين من شعوب اخرى مثل الباكستانيين والايرانيين والانجليز واليونانيين والمصريين ايضا واحببت اكلات هؤلاء بل بدأت ايضا في تعلم اللغة الأردية في مرحلة خاصة وعزيزة في حياتي، كما ان أمي تجيد أكلات باكستانية ويونانية وشامية,, ولدي أيضا الازياء القومية لهذه الشعوب ,, بجانب التجوال الدائم والاسفار اما طلبا للدراسة او مع الاسرة او للسياحة,, هذا التنوع قد يفسر وجود كل هؤلاء الاغراب في ديواني، وان كنت لا اعتقد انهم أغراب أنا ابنة كل من احببت وكل ما أحب .
* لكن بعض النقاد تعامل مع الحالات الاجنبية المتكررة وكذلك الأسماء على انها اضرت الديوان وجعلته غامضا على مستوى القارىء العادي؟
هذا صحيح,, وصمتت قليلا لكنه لا يمثل موقف جميع النقاد في الحقيقة فمثلا في بعض القصائد اوردت بعض الاسماء المرتبطة بالثقافة الهندية مثل غاندي وكاستورباي وفيشنو,, ولم أشعر بحاجة الى شرح ذلك في الثبت القصير الذي اوردته في نهاية الديوان, رغم توقعي بعدم معرفة القراء بمن تكون كاستور باي؟ التي هي بالطبع زوجة المهاتما غاندي بينما فيشنو احد اساطير الهندوس واسمه يعني الحافظ ,, لماذا لم اشرح كل هذا؟ ربما لا يعرف القارىء هؤلاء مثلما لا يعرف بعضنا ناس النهر في الميثولوجيا النوبية, وهذا ما اضطررت لشرحه للقارىء في الثبت الاخير وكنت قد اتخذت القرار انه دائما سيكون ثمة قراء لن يعرفوا من هو غاندي، كما انهم لن يعرفوا من هو فريد الدين العطار او جلال الدين الرومي مثلا اللذان اوردت ذكر أعمالهما في الديوان,, من هنا كان ارتباطي النفسي بتلك الاسماء الحميمة مثلما في قصيدة جون كيريا كوبوبس الذي عرفته انسانا وصديقا للأسرة، هذا الصديق اليوناني المصري الذي فتح عيني على أهمية تلك الأسماء وعالمها الانساني وان أبقى عليها بما فيها من غرابة حفاظا على هويتها كما استقبلتها في وجداني دون تغيير او تزييف.
حالة تبعثر وحس قصصي
* من اللافت للنظر بجانب كبر حجم الديوان نسبيا وجود حالة تبعثر داخل النص الواحد؟
قد اتفق معك,, فثمة اشكالية حياتية بالنسبة لي فيما أزعم، حيث انني من الباحثين عن معنى, ناهيك عن المعنى ,, لكن الاشياء لا تتسق ولا تفضي الى بعضها منطقيا دائما، فالبشر مفككون ومعقدون بأكثر مما نحب لعلني ما زلت ابحث في الحياة عن النفس الواحد المتصل غير المنقطع الذي استطيع ان امسك به وأترك نفسي له, ربما يوم اجده يتقلص هذا التبعثر الذي لا اختلف معك حول وجوده كظاهرة في نصي الفني لأن نص الحياة سيكون قد وهبني اياه.
* لا تنفي حالة التبعثر في النصوص وجود حس قصصي مرهف الى ابعد حد,, ماذا تقولين عن ذلك؟
قد أحاذر في عملي القادم من هذا ,, من كثرة ما ترددت هذه الملاحظة على المتربصة بنفسها ,, ربما يرى البعض ذيولا للبداية القصصية لدي عندما نشرت قصتين منذ بضع سنوات في احدى المجلات احيانا أخشى ألا أقدر على قول كل ما أريده وكل ما أعتقده بالشعر الحس القصصي ليس نقيصة لنعتذر عنها,, وهناك sub. Gente أي نوع أدبي مستقل وجذاب يسمى بالرواية الشعرية، ولن اكتمك انني كنت قد بدأت سرا بكتابة رواية قبل أي شيء,, رغم هذا، فاول عمل ابداعي كتبته كان قصيدة بالانجليزية كتبتها في حب بلدي وفي معنى الوحدة وقد نشرت في مجلة المدرسة في اسكتلندا,, فسبب هذا الحس القصصي ربما يتمثل في احتياجي الى رحابة ربما لم يجديها الشعر بعد,, الامر الذي دفع رجلا مثل بورخيس الى هجر الشعر باتجاه الرواية,, ويبقى الامتزاج بين الشعري والنثري حلا مشروعا ولكننا لا زلنا كمجتمع أسري التصنيف المتعسف فنقول مثلا الاستاذ الشاعر والاستاذة الروائية.
البحث عن حركة,, عن معنى
* التجربة الشعرية التي يطرحها الديوان تظهر الاشياء في حالة سكون او تلاش أوروبابيكيا ,, هناك افتقاد لشيء ما، هناك بحث عن حركة ما حقيقة وسط هذا الركام والفقد والتفسير المتعسف للأشياء؟
* أبحث عما لا يوجد لكني اعرف انه موجود ,, فقط اما انني فقدته او أنه لم يأت بعد التعبير عن هذا جاء بشكل مباشر في احدى القصائد:
وتقول البنت المتعبة
للكرملي:
أريد شيئا واحدا
يكون حقيقيا
لكني ارتطم دائما بغير الحقيقي ويتم انتزاعي من الفرح!
* اذا قلنا ما أسباب تأخر صدور الديوان,, هل بسبب الانشغال بالعمل الصحفي والدراسة والترجمة ام هناك أسباب اخرى؟
السبب الاول هو الخوف من ألا أكون مستحقة لأن أقرأ,, فثمة تردد شديد بداخلي ,, تراكمية الاحتشاد,, وليست كل الاوقات مناسبة للكتابة واللغة بالنسبة لي زجاجة اخشى ان تتهشم وانا أصبها,, وان كنت احيانا احتاج الى اخراج انفعالاتي بصورة غير شعرية، يحدد ذلك ما اتناوله من نقد لأعمال الآخرين او ما أكتبه من مقالات صحفية وترجمات.
عطاء المرأة والهم النسوي
* الانغماس في العمل الثقافي بالنسبة لك ككاتبة هل يحمل هما او منظورا نسويا,, وكيف تقيمين عطاء المرأة العربية في اللحظة الراهنة.
أفهم الانغماس في العمل الثقافي بالمعنى الوحيد الذي اقيم به انغماس الآخرين في ذلك العمل,, اي بالكتابة والاسهام الفكري والنقدي النابع من موقف في الحياة,, وفي موقعنا فيها,, وليس بمعنى الشللية حيث أنأى بنفسي عن الكثير من الصخب,, وبالطبع هناك هم بداخلي حول وضع المرأة العربية اجمالا، وفي بلدي خصوصا، فالقوانين والاعراف لدينا واضعوها ومنفذوها رجال، حتى افضل من عبر عن المرأة بصوت المرأة كان رجلا واقصد الشاعر نزار قباني,, وفي هذا ظلم للمرأة العربية,, ظلم شديد,, واحيانا تتواطأ المرأة ذاتها مع ظالميها ضد نفسها,, والعمل الثقافي الاخلاقي هو الذي يتحمل مسؤولية التعامل مع الظلم الذي يقع على الانسان والا كان تدليسا او فعل خيانة لمعنى الثقافة.
من هنا أعتقد انه لا عطاء بدون حرية ففيها يرقد معنى الارادة والثقة في عدم ابتذالها.
من الخليج الى لندن
* من خلال اسفارك من لندن الى اسكتلندا ,, الى ليبيا, الى الخليج العربي,, كيف ترين تجربة السفر بالنسبة لك كمبدعة؟
كثيرا ما يحدث عندما اكون في طائرة ألا أرغب في هبوطها,, وعندما أكون في حافلة تسيطر علي نفس الرغبة,, منظر الطائرات في الجو الآن كفيل بأن يأتي ببعض الدمع, أحيا على أمل السفر عرفت ان هناك جمالا لم اكن قد رأيته عرفت معنى ألا أنزعج من اختلاف الآخرين عني وعما نشأت عليه,, لكن السفر خلق لي علاقة بندولية بالأماكن,, أوقاتا كان يقلل حنقي على مواطن واحيانا كان يؤججه هناك علامات في الروح: مدينتي التي ولدت بها وبعدها مباشرة لندن، فان هواء المدينتين في الخلايا، وكل ما هو أنا مبعثر بينهما ومشدود اليهما وان كان هذا لا ينفي افتتاني بمدن زرتها سائحة شأن جزر اليونان ولبنان وغيرهما.
* وماذا عن تجربة سفرك الى الخليج,, ماذا يبقى منها في حقيبة الذكريات؟
لقد عشت عشر سنوات بالكويت، وأذكر انني كنت الاولى على قسم العلوم السياسية بجامعة الكويت,, وارتبطت في تلك الفترة المبهجة بأصدقاء حقيقيين، ولا زلت أذكر افتتاني بهدوء الصحراء هناك الذي انعكس على الشخص الخليجي هدوءا ووقارا، وهكذا يتحول المناخ الصحراوي الى سمت لأبناء الخليج، الذين لا يزالون يعشقون الصحراء لدرجة انني كنت اراهم يخرجون بعد نوبة المطر الخفيف الى الصحراء ليعيشوا في الخيام وينقبوا بالعصى بحثا عن الفقع أو أي كماية حمراء او بيضاء تحت التربة,, ولا يمكن ان أنسى قوة هذا الانتماء الى المكان.
شريف صالح |
|
|
|
|