| شرفات
لأن والده في الأصل معلم موسيقي وليس مؤلفاً، استطاع موتسارت أن يتتلمذ على يديه، وكان وهو في سن الرابعة قادراً على التأليف واستظهار ألحان الآخرين, لا شيء يأخذه بعيداً عن عالم النغمات سوى الرياضيات التي كان بارعاً فيها، لدرجة أنه كان يملأ الجدران والكراسي والمناضد، بل أرض الغرفة نفسها بحلول المسائل الحسابية العسيرة.
حتى الأب لم يكن يصدق أن له ابنا يتمتع بتلك العبقرية النادرة، فهو في الاساس كان يعلم شقيقته الكبرى ماريا وإذا بالطفل موتسارت ابن السنوات الثلاث يحرص اشد الحرص على متابعة الدروس مع اخته، الى ان اقتنع الأب بأن يخصص دروساً موسيقية له.
وكان موتسارت آنذاك طفلاً شديد الحساسية رقيق الطبع، حتى لقد كان يسأل من حوله عدة مرات في اليوم الواحد عما اذا كانوا يحبونه أم لا، فإذا أجاب أحدهم بالنفي من قبل المزاح اغرورقت عيناه بالدموع! وبسبب حساسيته المفرطة ورقة طباعه كان يجد سهولة أكثر في التعامل مع النساء وسيدات المجتمع اللاتي كن يحتفين به ويرين فيه الطفل المعجزة اللاتي يتمنينه ومن أغرب الهدايا التي تلقاها من امبراطورة النمسا أنها أهدته فستانين احدهما له والآخر لشقيقته ماريا، وعندما ظهرت عليه أعراض المرض والطفح القرمزي اثناء زيارته للامبراطورة أُرسل للعلاج لدى أحد أطباء فينا الذي تناول أجره موسيقى لا مالاً.
كان ارتباطه بالامبراطورة قوياً الى حد بعيد، فهو يستطيع ان يقفز في حجرها وان يقبلها بحرارة كأنه طفلها المدلل، كما كان يتجول في أروقة القصر مع ابنتيها، وذات يوم زلت قدمه على أرض القاعة الملساء، فلم تعبأ إحدى البنتين لكن الأخرى وهي ماري انطوانيت ملكة فرنسا فيما بعد انهضته، وأخذت ترفه عنه فقال لها بصراحة شديدة: إنك لطيفة جداً، وسأتزوجك، فقصت ماري ما حدث على أمها فسألته كيف خطر له أن ينتهي الى مثل هذا القرار فأجابها قائلاً: بدافع عرفان الجميل فقد كانت رقيقة جداً, أما أختها فلم تعبأ بي!
بالطبع كان كلام أطفال، فماري انطوانيت لم تتزوج منه وإنما من ملك فرنسا وانتهى بها المصير لمحزن الى المقصلة إبان الثورة الفرنسية أما موتسارت فواصل رحلاته الموسيقية في المدن الألمانية المختلفة، في بافاريا وميونيخ ومدينته الأصيلة زالتسبرج.
والحقيقة أن تلك الرحلات الفنية لم تحقق لموتسارت الرخاء المادي دائماً، فقد عانى العسر المالي ابان رحلته الى فرانكفورت، كما ان رحتله الى باريس لم تكن أحسن حظاً، إذ وصلها في فترة إعلان حداد، وربما يكون السبب في هذه الضائقة المالية ان النبلاء انفسهم الذين كانوا يستضيفونه يعانون ايضاً من الفقر المالي, وحين انتهت فترة الحداد ودُعي موتسارت للعزف في قصر فرساي أمام الملك أمرت مدام دي بمبادور محظية لويس الخامس عشر ان يقف الطفل موتسارت فوق منضدة خاصة فلما تقدم لتحيتها أدارت له ظهرها وانصرفت، فصاح غاضباً حزيناً: من هذه التي لا تريد أن تقبلني؟ لقد قبلتني الإمبراطورة نفسها من قبل!
عندما عزف موتسارت أمام امبراطور النمسا اصيب في تلك الزيارة بطفح قرمزي، وعندما عزف أمام ملك فرنسا كان يعاني من ضائقة مالية، وحين سافر للعزف أمام ملك انجلترا اصيب بنزلة برد شديدة الزمته الفراش.
ملوك ورحلات وموسيقى وموائد عامرة ولا أحد يدري بما يعانيه موتسارت من فقر وآلام، ناهيك عن حقد الموسيقيين عليه الذين يشيعون انه طفل مضلل يعبث بأذواق الناس.
ومن الغريب المضحك ان عمله الأصلي كعازف في الكنيسة لم يكن يدر عليه مالاً يذكر بجانب ان رئيس اساقفة التبرج لم يكن صاحب ذوق موسيقى ولا حتى عاطفة إنسانية تجعله يقدر ابن مدينته الذي خلب ألباب الناس.
وتتجمع الآلام والأحزان دفعة واحدة وهو ان الثانية والعشرين من عمره حين فاضت روح الأم الى بارئها أمام عينيه وهو لا يدري ماذا يفعل؟
ولا يملك سوى الدموع! ورغم انه حاول ان يُخفي اخزانه في مزيد من العمل والتفاني إلا انه لم يجن سوى مزيد من الشقاء، حيث غادر زالتبرج الى فينا ليلتحق بالعمل في البلاط هناك، متوقعاً ان شهرته ورحلاته الى ملوك أوروبا ستوفر له مكانة لائقة به وبفنه، وإذا به يُرسل الخطاب الأول الى ابيه قائلاً: ,, وهناك جلس الى المائدة الغلامان ، ومراقب الخدم والهرتسيتي، وصانع الحلوى، والطاهيان,, وشخصي الحقير! وقد تصدر الغلامان المائدة وكان لي على الأقل شرف الجلوس في مكان متقدم على الطاهين! , هذا الوضع المخزي الذي لا يليق بموهبته الفذة انتهى سريعاً بترك الوظيفة ومغادرة المدينة.
لابأس من أن يخوض غمار الحياة الحرة معتمداً على عشقه الخاص لآلة الكمان، متكسباً من اعطاء الدروس وتلحين بعض المقطوعات الى ان صار امير عازفي البيان في غضون خمس سنوات، ارتبط خلالها بصداقة شهيرة مع الموسيقار العظيم جوزيف هايدن.
ورغم نجاح موتسارت الى حد كبير بعد تلحين اوبرا المخطوفة من السراى ورغم زواجه من حبيبته كونستانس فيير، إلا ان عوادى البؤس لم تلبث ان عدت عليه مرة أخرى، حيث عانى ضائقة مالية ومرضت الزوجة الشابة قرابة عام ونصف العام، ومما زاد الطين بلة فشل روايته أفراح فيجارو او بمعنى أدق لم تظفر بالنجاح الذي تستحقه.
نتيجة لكل هذا تراكمت عليه الديون ونغص عليه الدائنون صفو حياته، وأصبحت ديونه مُضغة الأفواه في البلاط الامبرطوري لدرجة أن الإمبراطور سأله يوماً: لماذا لم تتزوج امرأة غنية؟ فأجابه موتسارت بأنفه: مولاي انني اعتقد ان عبقريتي ستمكنني دائماً من الانفاق على المرأة التي أحبها!
إزاء هذا الوضع انهمك موتسارت في العمل والتلحين بشكل هوسي مما كان نذيراً بانحلال قواه وإشرافه على النهاية، إذ عانى من نوبات متوالية من الإغماء تستغرق كل منها عشر دقائق وبدت عليه علائم الضعف فاضطر الى ترك التلحين من وقت لآخر بأمر الأطباء, ثم كانت النهاية الدرامية الغامضة حين طلب منه شخص مجهول أن يؤلف لحناً حزيناً نظير أي مبلغ يطلبه، وسأله متى يفرغ من هذا اللحن فاعتذر موتسارت عن تحديد الموعد مسبقاً ولكنه وافق على التلحين من حيث المبدأ بعد تردد وبعد ان عرض الأمر برمته على الزوجة.
بعد ايام قلائل اتى الزائر المجهول ودفع نصف المبلغ المتفق عليه وأجل النصف الآخر الى ان ينتهي موتسارت من اللحن الحزين, حاول موتسارت ان يعرف اسم الزائر الغريب او عنوانه لكن الزوجة نصحته ألا يضيع جهده عبثاً وان يعكف على اللحن, وحين انشغل عنه بعض الوقت وأثناء ركوبه عربة السفر متجهاً الى زيارة براغ ظهر الزائر الغريب وسأله عما فعل باللحن فوعده موتسارت ان يتمه بمجرد عودته.
وإذا به يسقط مريضاً في براغ ولا ينقطع عن تناول العقاقير، وبداخله شعور جارف بأنها لحظة النهاية واستسلم لنوبة غريبة من الكآبة وأوهام أن خصومه جرعوه السم ,,,!!
وقال لزوجته حين عاد إلى فيينا بأنه لا يكتب اللحن الحزين للزائر الغريب وإنما لنفسه.
حاولت زوجته أن تحول بينه وبين تأليف هذا اللحن المشؤوم لكنه كان يستأنفه من وقت لآخر، فلم يفارقه هذا اللحن حتى في النزع الأخير، فكان يطلب من زواره ان يغنوه له, وفي آخر ليلة قال لاخت زوجته لقد صنعت خيراً بحضورك فيجب ان تبقى هنا الليلة لتشهديني أموت! فلما حاولت ان تصرفه من التفكير على هذا النحو قال: إنني أذوق الموت ,
ثم قام فألقى نظرة أخيرة على اللحن الحزين والدموع تترقرق في عينيه: ألم أقل لكم كنت أكتب هذا لنفسي!! ثم سقط ميتاً.
شريف صالح
|
|
|
|
|