| الثقافية
الحياة الجديدة للشعراء الجدد، وخبراتهم الفنية والثقافية التي تزيد كثيراً عن خبرات من سبقهم، وما أتاحت لهم وسائل الاعلام والاتصال الحديثة من حرية نشر واطلاع حققت لرؤاهم الاتساع والعمق والشمول والنظرة الانسانية، كل ذلك أتاح ويتيح لهم التفوق على من سبقهم في نفس المجال الابداعي، في الاشكال والتقنيات والمضامين.
ومع ان التقليديين الجدد لا يجبون الشعر الجديد، ربما لأنهم لم يألفوه، وربما لم يألفوه لأنهم لم يفهموه، فإن الجدد تعودوا أن يقولوا لهؤلاء التقليديين: ان انتاجنا الابداعي ليس عسير الفهم والتذوق على الانسان الباحث عن الشرعية بشكل حقيقي وجاد، ولم يقولوا لهم لم لا تفهم ما يقال أو من جهل شيئاً عاداه كما كان يقال للتقليديين القدامى، لأن هاتين المقولتين واردتان ومع كل حالة مشابهة، حتى ولو لم يتم التلفظ بهما.
ومن الأشياء التي امتاز بها الشعراء الجدد عن القدامى، عبر اختلافهم عنهم فيها، ان الشعر أصبح يقوم على إيقاظ القارئ لا تنويمه، وتوعيته لا التدليس عليه أو خداعه، وتحريكه وبث روح التساؤل فيه لا تخديره أو تطريبه أو مساعدته على التصديق والاستسلام، وتغييره ودفعه إلى إعادة النظر في نفسه وعلاقاته.
وراء هذا التفوق وهذه الانجازات فلسفة جديدة، وهي ما وجه دفة الثقافة العربية بعامة والشعرية بخاصة بعد ان انتشرت منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن، وهي حداثة الرؤى والتفكير والمواقف والأشكال الفنية وطرق التعبير، والتي سارع التقدميون من مثقفين ومبدعين ونقاد إلى اعتناقها، وتنكروا لما يناقضها، وحاول كل منهم وبحسب امكاناته ونياته أن يتمظهر بمظهرها الذي كان من ابرز معالمهالدعوة الدائمة للتجديد والابداع، والرؤية المحدثة إلى الأوزان والقوافي مما سهل الخروج عليهما، والنظر إلى اللغة نظرة متطورة نسبياً أبرزت الابعاد لمقومات هذه اللغة، والتوقف عند التجربة الشعرية وما يتمثل فيها من صدق ومن قدرة في التعبير شعراً عن التجربة الذاتية وفي توصيل الحالات إلى المتذوق أو القارئ، وأهمية الأبعاد الرؤيوية في الشعر التي تمثل كشفاً دائماً عن عوالم جديدة ذات أبعاد مستقبلية ثم إظهار دور الشعر في معركة الحياة والوجود التي يخوضها الشاعر كفرد من أمة أو طبقة أو فئة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وطنياً وقومياً وعالمياً، وإظهار أهمية الرؤية الفكرية والفلسفية في توجيه الشعر وتعميق رؤاه التي تستكنه معالم الوجود وتجيب عن الأسئلة التي تتعلق بالانسان والحياة والكون ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، والدعوة لتفاعل الشاعر مع جذوره التراثية ومع ما توفره الروافد العالمية تفاعلاً حضارياً ثقافياً وروحياً حسب د, خليل أبو جهجه, وان اختلفت درجة تمظهر كل من يدعي الانتماء للحداثة بهذه المظاهر أو بعضها، قوة وضعفاً، عمقاً وسطحية، اتساعاً ومحدودية، مثقفاً كان أو مبدعاً أو ناقداً، عدا عن ان هذه الحداثة طالت كفلسفة كثيراً من المشتغلين بالعلوم الأخرى، إنسانية وطبيعية وادارية وسياسية، وحتى أتى الوقت الذي نقرأ فيه آراء المحللين وهي تشغل الساحة وبال الناخب الأمريكي فيما إذا كان المرشح الرئاسي القادم تقليدياً أو حداثياً أو بعد حداثي، وبخاصة ان عليه التعامل مع كثير من كرات الحديد المشتبكة والملتهبة في آن، وفي كل مكان في العالم، في الوقت نفسه الذي يتعامل فيه مع صراع القديم والجديد ويرى إلى التطور والصراع الحضاري العالمي بوجوهه ومستوياته المتعددة، وكيف سيتعامل مع ذلك كله بتعادلية.
وبالنسبة للإبداع العربي في جميع مجالات الفنون بعامة وفي الشعر بخاصة، فقد كان المستوى الفني الابداعي متقدماً بمسافات طويلة على النقد الذي لم يكن بمستوى الطاقات الابداعية التي اختزنتها الحركات الحداثية التي تقدمت على النقد، وكان للشعراء دور مهم في إلقاء الضوء الكاشف لمعالم نزعاتهم الشعرية المحدثة وتحديد جوهرها ومع كل الجهود التي يبذلها المنظرون والمتابعون واللاهثون لمواكبة حركة التحديث في الشعر العربي بخاصة وحركة الحداثة العربية بعامة، ولأن السباق غير متكافئ حتى الآن فانه لم تتحدد حتى الآن نظريات لقضايا الحداثة وابعادها وأشكالها وأنساقها لأنها في حركة تطور مستمر، ولم يتم الاعتراف بها حتى الآن في المناهج المدرسية للطلاب .
والشعراء الجدد، من شعراء التسعينيات وحتى الآن، ادركوا الاشكاليات المحيطة بهم واستطاعوا النجاة من المآزق التي وضعها بعض الرواد ممن بنوا ريادتهم على الاقتباس والتقليد وقاموا بتوريط كثير من الاجيال التي اتخذت إبداعهم نموذجاً ومنهجاً واعرافاً، في حين نجا الجدد من هذه الأبوة الضارة بصحة الشعر، وبدأوا نشر بذورهم الجديدة في الأراضي البكر وتوجت جهودهم بما حققوه في مجال قصيدة النثر، ولم يعودوا مرتهنين أو مستلبين حتى لتنظيرات الرواد المستوردة حولها، وذلك في عودة إلى الحرية المطلقة في إبداع أساليبهم الجديدة التي تكتسب شرعيتها ، ليس من تنظيرات سابقة، أصيلة أو مستوردة، بل من تجاربهم الابداعية ذاتها وما ينتج عنها من إبداع جدير بأن يكتسب شرعيته ويفرضها من خلال نفسه فقط، وفي استقلال تام ليس عن التقليديين العموديين فقط، شعراء ونقاداً بل عن التقليديين الجدد من اصحاب التفعيلة والمقلدين الجدد من اصحاب قصيدة النثر، وفي اتخاذهم مواقف تنم عن ثقافة ووعي ورقي ومستقبلية والتزام بدورهم الانساني.
وفي حين يرفضهم الآخرون، وفي حين يرفض الآخرون بعضهم بعضاً، يبقى الشعراء الجدد أرحب صدراً وأوسع أفقاً في قبول وجود التعددية في الانساق والمدارس والاتجاهات، لأن وجود شيء لا يعني قتل الآخر أو إلغاءه أو تهميشه إذا كان يستحق البقاء ويملك مقوماته.
|
|
|
|
|