| الاقتصادية
إن الثروة الحيوانية في المملكة ليست بالكبيرة إذا ما قورنت بالاستهلاك المحلي والذي يحتم استيراد لحوم من الخارج, هذا الوضع لا يختلف عن الكثير من الدول، وسمعنا بدون شك موضوع جنون البقر وكيف ان دول الاتحاد الأوروبي رفضت استيراد لحوم من بريطانيا بسبب الخوف من انتقال مرض جنون البقر الى المستهلكين من مواطنيها, وحتى مع الفسح الأخير للحوم البريطانية، لا يزال الطريق طويلا لبناء سمعة جيدة للحوم البريطانيا بعدما لوثتها الحادثة، فالعديد من مواطني الدول لايزال يرفض شراء اللحوم البريطانية إلى الآن, إذن ليس هناك ما يدعو للخجل عندما نقول بأننا لا نستطيع الايفاء باحتياجات المواطنين والمقيمين من اللحوم الحمراء، وعلى هذا الاساس يتم وضع الخطط اللازمة لتنمية الثروة الحيوانية المحلية، في الوقت الذي يتم تغطية النقص في اللحوم الحمراء بالاستيراد من الخارج.
لنرى السياسة الحالية التي تنتهجها وزارة الزراعة في سد العجز الحاصل، وأولها السماح باستيراد الحيوانات المذبوحة المبردة والمجمدة من بلدان عدة، من بريطانيا، استراليا، تركيا,, الخ,, الخ, كذلك يتم استيراد حيوانات حية وهي بالملايين، وبالذات الغنم، وهي عادة ما يتم جلبها من استراليا أو دول اخرى، وهذه الحيوانات هي في الاصل لانتاج الصوف، وعندما تصل عمرا معينا، يتم التخلص منها لعدم جدواها الاقتصادية، فيتم تصديرها بالبواخر الى المملكة وبأسعار زهيدة, وقد حدثت اكثر من مشكلة وهي ان العديد من الحيوانات في شحنات سابقة كانت مصابة ببعض الامراض، وبالتالي تم منع نزول الشحنة من الحيوانات في الموانئ السعودية، وحدث في الموضوع اخذ ورد بين المملكة واستراليا, وكذلك رفضت دولة الامارات دخول الشحنة الى موانئها بسبب الخوف من انتشار المرض, كذلك يتم استيراد حيوانات حية من السودان والصومال والدول المجاورة لها، وبعضها يدخل المملكة كما يقال تهريب عن طريق البحر دون المرور بالموانئ السعودية، ،هذا يعني انه لا توجد اي معلومات عن عددها وبالتالي لم يتم اخضاعها لاي نوع من الحجر الصحي، هذا إذا كان هناك حجر صحي, كذلك تقوم وزارة الزراعة بدعم مشاريع التسمين لانتاج اللحوم الحمراء محليا والهدف تغطية نسبة اكبر من حاجة السوق المحلية من الناتج الوطني, ويقال إن الهدف هو ايضا المحافظة على الثروة الحيوانية المحلية وزيادتها، فالحيوانات المحلية ليست فقط متكيفة مع اجوائنا الحارة، بل أيضا تقاوم العديد من الامراض المستوطنة المحلية, فهي إذن تستحق الرعاية والحماية، وكذلك التحسين بدراستها وتحسين انتاجها.
نحن لا نشك ولو للحظة اننا بحاجة الى استيراد لحوم حمراء لتغطية حاجة السوق المحلي، ولكن تختلف الطريقة التي تتبعها الدول المتقدمة والتي تبني قراراتها على معطيات علمية مدروسة تأخذ في الاعتبار عوامل عديدة، منها دخول الامراض التي قد تنتقل الى الحيوانات المحلية والامراض التي ربما تنتقل ايضا إلى الانسان, إن العديد من الدول تحاول جاهدة القضاء على الامراض الموجودة فيها إما عن طريق التحصين، او عن طريق اعدام الحيوانات المصابة والحاملة لمرضٍ ما، وتعويض المنتجين عنها، كما حدث لمنتخي اللحوم في بريطانيا عندما تم التخلص من عدد كبير من الابقار خوفاً من مرض جنون البقر, هذه الدول تستورد لحوما (حيوانات مذبوحة) مبردة أو مجدمدة، لا حيوانات حية وهذه الحيوانات مفحوصة في بلدها من قبل جهات متخصصة لتتأكد من خلوها من الامراض وترافقها شهادات مصدقة من جهات رسمية تضمن خلوها من الامراض المعدية وغيرها من الامراض حتى يتم اجازتها بالدخول الى البلاد, ولا ننسى ان هذه الدول ترفض رفضا باتا استيراد حيوانات حية للذبح تحت اي ظرف، فلا محسوبية ولا واسطة، ولا مصالح خاصة، ولكن تستورد عدداً قليلاً منها لتحسين سلالات معينة ولاغراض البحث، وهذه الحيوانات يتم حجزها في محاجز بعيدة ولمدة تطول او تقصر استناداً إلى المعلومات المتوفرة.
إن استيراد حيوانات حية للذبح ليس له اي مبرر علمي، بل العكس، كل الدلائل تبين ان استيراد حيوانات حية للذبح امر غريب ومضحك أحياناً لانه يتنافى مع ابسط القواعد العلمية.
ولقد ذكرت في مقال سابق استيراد حيوانات حية وذبحها,, لماذا؟، الاقتصادية 28 يوليو 1999م أي قبل أكثر من عام، على أمل ان نرى تجاوباً من وزارة الزراعة يبرر فيها هذه القرارات، والتي أقل ما يقال عنها ارتجالية عشوائية أو خاضعة لمصالح خاصة وليست علمية, ولأبين لكم أعزائي القراء هذه النقطة، إليكم الآتي:
1) ان استيراد حيوانات حية وبأسعار أقل من مثيلاتها من الحيوانات الحية المحلية يعني انها ستنافس الانتاج المحلي، خاصة إذا ما عرفنا ان سعر الحيوانات المستوردة يصل إلى اقل من 250 ريالا، في الوقت الذي يصل فيه المحلي إلى فوق 400 ريال, ألا ترون ان هناك تعارضا ما بين استيراد حيوانات حية تنافس الانتاج المحلي وبين دعم مشاريع انتاج اللحوم، والذي ادى إلى فشل العديد من المشاريع القائمة، والبقية تأتي.
فكيف تسمح وزارة الزراعة بالتضاد في قرارين أولهما الهدف منه توفير اللحوم المحلية والثاني توفير حيوانات تنافس اللحوم المحلية، وكلاهما ينطح في الآخر، فيخسر الانتاج المحلي لزيادة الكلفة حيث ان معظم غذاء الحيوانات مستورد، والغذاء يمثل ما يزيد على 60% من كلفة الانتاج.
2) ان هذه الحيوانات الحية تحتاج لمكان ايواء ولفترة تزيد او تقصر، وتحتاج لتحصينات عديدة حالة وصولها من بلادها حتى لا تصاب بالامرض، إضافة إلى تغذيتها ولمدة تتراوح ما بين عدة ايام إلى اسابيع قبل ان يتم بيعها في السوق, هذه التحصينات هي في الواقع مستوردة، والادوية مستوردة، وكذلك الاعلاف التي تتغذى عليها هذه الحيوانات, فهي إذاً عبء اقتصادي آخر يضاف إلى النقاط الاخرى.
3) ولا ننسى أهم نقطة هي ادخال أمراض عديدة لم تعرفها بلادنا، وهذه الامراض تتراوح ما بين امراض طفيلية، أمراض بكتيرية، وأمراض فيروسية تصيب الثروة الحيوانية او تهدد صحة الانسان, إن وزارة الزراعة بها فريق يسمى بخبراء الفاو ، وإلى الآن لم نسمع عن اي انجاز لهم على الصعيد المحلي، فها هي الامراض ترتع في بلادنا، بل تزداد يوما بعد يوم، إلى ان اصبحت العديد من الامراض مستوطنة, ففي الوقت الذي تمت السيطرة على العديد من الامراض في دول تملك القليل من الامكانيات، لانزال مكانك راوح، فداء الكلب يرتع، والحمى المالطية في كل مكان، والحمى القلاعية والطاعون البقري, إذن أين انجازات وزارة الزراعة في الحفاظ على الثروة الحيوانية وهي ترزح تحت العديد من الامراض، أكثر هذه الامراض قادمة من الخارج عن طريق استيراد حيوانات حية.
4) بدون شك تمثل صحة الانسان الفيصل عندما يتم التحدث عن صحة الحيوانات واللحوم التي نستهلكها، ومع ذلك نرى ان الاصابات بالحمى المالطية تزداد، وآخر مشكلة أو مأساة، أو كارثة، سمها ما شئت، وهي وجود مرض حمى الوادي المتصدع في جازان بالمنطقة الجنوبية الغربية للبلاد وهاهم ابناء هذا الوطن يموتون بمرض كان من المفترض ألا يدخل البلاد أصلاً, ففي عام 1977م أصيب في مصر ما يقارب 20 ألف انسان توفي منهم حوالي 600 شخص بهذا المرض، وهذا المرض له أعراض تشبه اعراض الانفلونزا وتتميز بحمى ثنائية الاطوار احيانا، وقشعريرة وهذيان واحمرار بالوجه والعينين وخوف من الضوء وألم بالعضلات والظهر والمفاصل، وصداع وأحيانا غثيان وقيء وفقد للشهية, كما تُلاحظ زيادة اعداد كرويات الدم البيضاء اثناء المراحل الاولية للمرض ثم انخفاضها بعد ذلك إلى ما دون المعدلات الطبيعية, وأغلب الاصابات في الانسان تشفى سريعا خلال بضعة ايام إلا ان بعضها يسبب التهابا في شبكية العين وعمى مؤقتا وبعضها قاتلة, إن السبب في دخول مرض قاتل مثل حمى الوادي المتصدع، وهو مرض فيروسي ينتقل عن طريق الحشرات الماصة للدم، وسبب حدوث المرض هو دخول الحيوانات الحية المصابة من دول افريقية مجاورة على الجانب الآخر للبحر الاحمر، وإذا ما عرفنا ان ابوابنا مفتوحة للحيوانات الحية من كل جهة، ليس من المستغرب ان تكون هذه النتيجة, لقد كان هناك حظر على استيراد حيوانات من منطقة القرن الافريقي، بعدها تم رفع الحظر، لماذا؟ السؤال موجه إلى وزارة الزراعة، والسؤال الأهم والأخطر والذي أدى إلى الكارثة، لماذا يتم استيراد حيوانات حية أصلا؟ من الواضح للمتابع في الايام الاخيرة هو ان تحرك وزارة الصحة كان سريعا، وإن لم يكن بالشكل الذي نأمل فيه، ولكن هذا الحدث بالفعل اختبار لقدرتنا في التعامل مع الكوارث، وقد ابلت وزارة الصحة بلاء حسنا, فوزارة الصحة تحركت وأرسلت خبراءها، وقامت بارسال العينات بأسرع وقت لمراكز التشخيص في واشنطن وأطلنطا، وقامت بعمليات الحظر والحجر، إضافة إلى ظهور معالي وزير الصحة على شاشة التلفاز يبين ما استجد في موضوع الكارثة، إن صح التعبير, ولا ننسى ان وزارة الصحة قد حذرت قبل اربع سنوات من المرض واحتمال دخوله المملكة، بينما لم نسمع عن وزارة الزراعة اي استجابة، بل على العكس كانت البداية هي النفي، وكأن الوضع لا يخصها لا من قريب ولا من بعيد، ولو فرضنا ارادت وزارة الزراعة التحرك، فأين الخبراء الذين يعملون فيها؟، فالوزارة لم تستثمر في اي نوع من اعداد الكوادر الوطنية كما الوزارات الاخرى، كالصحة مثلا, وأين مختبرها المركزي الحديث الذي يستطيع تشخيص مثل تلك الامراض؟ نعم سنظل بحاجة لارسال عينات لمختبرات عالمية، ولكن المؤسف حقا هو عدم وجود مختبر مركزي بيطري يستطيع ان يساهم في تشخيص اكثر الامراض المنتشرة التي نحتاج الى تشخيصها باستمرار وحتى مع طرحنا لتلك المواضيع في السابق لا يبدو ان هناك اي جهة بوزارة الزراعة تستطيع الاجابة، او تريد حتى الاجابة على ما يتم نشره, وكما ذكرت سابقا عن المقال الذي كتبته قبل اكثر من عام، وقد ذكرت فيما ذكرت غياب المختبر المركزي كالموجود في العديد من الدول، وكيف ان الكثير من المزارع تقوم بارسال عيناتها إلى مختبرات طبية بشرية، او تقوم بارسال عيناتها إلى الخارج.
ليس من المستغرب رش المستنقعات التي يعيش فيها البعوض، ولكن المستغرب فعلا هو نسيان هذه المستنقعات ولمدة طويلة، وكأن شيئا لم يكن، وإذا ما حلت الكارثة، تنبهت وزارة الزراعة بأن هناك مستنقعات يجب رشها، وكأن هذه المستنقعات تكونت بين ليلة وضحاها ولم يمض عليها عام أو أكثر بسبب الامطار, إن أرواح مواطنينا في خطر وها هو المرض يحصد الارواح، قد زحف إلىاليمن، وربما يزحف إلى مناطق اخرى من المملكة.
إن مسؤولية وزارة الزراعة في موضوع الكارثة الوطنية واضحة والتي فعلا بينت هشاشة الوضع الصحي للثروة الحيوانية وهشاشة إدارة الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة، ولذلك من الافضل ان تعي وزارة الزراعة هذا الدرس جيدا وتبدأ بالعمل من القاعدة بتوفير الامكانات اللازمة التي تتناسب مع مايوجد في الدول الاخرى وتعمل على توفير الكوادر الوطنية التي تقوم بانجاز هذه الاعمال، على غرار ما هو متواجد في وزارة الصحة، حتى لا تتكرر المأساة، فهذه المرة الوفيات من المواطنين، وليسوا حيوانات، فهكذا أمور لا تسير بالبركة، بل بالعمل والتخطيط السليم, والسؤال إلى وزارة الزراعة، هل حان وقت العمل، أم أنه قد فات؟
د, محمد جعفر آل حسن جامعة الملك سعود
|
|
|
|
|