| عزيزتـي الجزيرة
الحمد لله المتفرد بالبقاء والدوام ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا راد لأمره، له ما اخذ وله ما اعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى سبحانه القائل وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخلد أفإن مِت فهم الخالدون .
والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد عليه افضل الصلاة واتم التسليم، القائل: ان الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء,, الحديث.
رزئت الاوساط العلمية بخطب فادح، ومصاب جلل، الا وهو وفاة الشيخ العلامة محمد بن عبدالرحمن بن قاسم رحمه الله اثر حادث أليم، هزّ المشاعر، وابكى العيون، وخلف حزناً عميقاً، فكان الخطب عظيماً بعظم مكانة الفقيد وقدره:
كذا فليجل الخطبُ وليفدح الأمرُ فما لعينٍ لم يسل ماؤها عذرُ |
نجم أفل،، وشمس غابت، وهل هناك مصيبة أعظم وفجيعة أشد من فقد العلماء، ولكنها سنة الله في خلقه، اجيالاً تتعاقب وأمماً تحل محل اخرى:
هو الموتُ ما منه ملاذٌ ومهربُ متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ |
وعندما يرحل رجل بمكانة وقدر الشيخ الوالد محمد رحمه الله فتلك طامة كبرى، وفاجعة عظيمة، فقد طويت بوفاته صفحة من صفحات العلم والفضل والخلق الكريم، فقد عاش رحمه الله للعلم والدين، علّم ودرّس، والف وجمع، كان ينصح ويدعو، حياة مليئة بالعطاء والبذل ونكران الذات، رجل هجر المناصب ولو ارادها لأتته وهي راغمة، وهو من تفتخر به المناصب، ومناقبه قدّس الله روحه كثيرة ولا تحصى في هذه العجالة، ولكن هذه اشراقات من تلك الصفحات البيضاء، فحياة الشيخ كانت للعلم وفي العلم، طلباًوبحثاً، وجمعاً وتأليفاً، فقد طلب العلم على يد عدد من العلماء ابرزهم سماحة مفتي الديار السعودية محمد بن ابراهيم رحمه الله حيث لازمه وفاق اقرانه في كتابة ما يقوله الشيخ في دروسه، وكان وفياً لشيخه حيث امضى جزءاً غير يسير من عمره متفرغاً لجمع وضبط فتاوى شيخه، واخرجها للأمة في ثلاثة عشر جزءاً، حيث بذل فيها من الجهد ما لا يعلمه إلا الله، ثم المقربون إليه، وقبل ذلك الجهد الجهيد في جمع وترتيب فتاوى شيخ الاسلام مع والده الشيخ عبدالرحمن بن قاسم رحمه الله في عمل خالد ستتناقله الاجيال الى ان يرث الله الارض ومن عليها، ثم قام في اواخر حياته باستدراك فتاوى شيخ الاسلام، وطبع المستدرك في خمسة اجزاء، وقد وُجد اثار في اصابع الشيخ من كثرة الكتابة، والله لا يضيع اجر من احسن عملا:
هيهات أن يأتي الزمان بمثله إنّ الزمانَ بمثلهِ لبخيلُ |
اما العطاء والبذل فحدث عن البحر ولا حرج، فقد كان جواداً معطاءً، ينفق انفاق من لا يخشى الفقر، اقبلت عليه الدنيا فأعرض عنها, ومن سخاء نفس الشيخ ما اسرّ لي به احد ابنائه انه قد انفق مبلغاً يقدر بالملايين قيمة املاك باعها في اواخر حياته، انفق معظمها رحمة الله عليه في اعمال البر وبناء المساجد ودعم حلقات تحفيظ القرآن، ولسان حاله يقول: وما عند الله خير وابقى .
إنّ لله عباداً فُطنا طلقوا الدنيا وعافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سُفنا |
واعلم من الشيخ منذ وعيت على الدنيا انه في كل عام كان يصوم رمضان في مكة وهناك يمد الموائد بنفسه رحمه الله، لتفطير المحتاجين والمعتمرين في الحرم الشريف، اما عن عبادته فكان غفر الله له مواظباً على صلاة الجماعة اماماً ومأموماً، مداوما على السنن والرواتب والاوراد وصلاة الضحى والحج والعمرة، وصلاة الليل لا يتركها مهما كانت الظروف، لا حر ولا برد ولا مرض يعيقه عنها, وخلاصة ذلك ما قاله ابنه الكاتب الاسلامي البارز، الشيخ عبدالملك: لو قيل لابي وفاتك في اليوم الفلاني ما زاد في عبادته شيئا, واما عن اخلاقه وتعامله فكان مدرسة في حسن الخلق، كان عفيف اللسان، سليم القلب، فيه حياء المؤمن لا يغضب لنفسه رحمك الله يا ابا عبدالملك، فستبقى دهورا نتذكر تلك الصورة الجميلة والروح الطيبة، التي نلقاك عليها في منزلك او في مزرعتك، وجه جميل، نور الايمان يكسوه، مرحِّبا بالصغير قبل الكبير، صورة مليئة بالوقار والايمان والتواضع، كرم وبذل ومجلس لا يمل, اعاننا الله يا ابا عبدالملك على فراقك وجبر كسرنا ومصابنا في فقدك:
وما الدهر والايام الا كما ترى رزية مال او فراق حبيب |
ولكن عزاءنا في الشيخ ما رأيناه من حسن الثناء عليه والدعاء له من الصغير والكبير، ذكراً وانثى، وتلك عاجل بشرى المؤمن، وعزاؤنا فيه ما خلفه من علم وآثار ستبقى الى يوم الدين، وما قدمه من صدقات جارية واعمال بر، وعزاؤنا في الشيخ فيما خلفه من ذرية صالحة ذكوراً واناثا، نحسبهم كذلك، ولا نزكي على الله احدا ومما يبشر به ما ذكره احد مغسليه ان سبابة الشيخ كانت قائمة كأنما هو يتشهد، وكذلك ما كان عليه من اثر في وجه الشيخ من بقايا مرض قديم استحال الى صفاء ونور، فسبحان الله فله الامر من قبل ومن بعد، نسأل الله باسمائه وصفاته ان يجزي الشيخ خير ما جزى به عباده الصالحين، والحمد الله على قضائه وقدره.
خالد بن صالح المنيف
|
|
|
|
|