| مقـالات
تتعدى اللغة أي لغة كونها أداة اتصال رمزية فقط وذلك لكونها كائنا يتفاعل مع الواقع دايلكتيكيا فيتأثر به ويؤثر عليه, إنها بالأحرى (كاميرا) الواقع المعاش بكل أبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية: ففي حال كان هذا الواقع حضاريا، وموضوعيا، وصلد البناء والبنى؛ ارتقى مستوى اللغة، وأصبحت أكثر مرونة، وطابت نفسا (وخفت دما!) كذلك, والعكس صحيح: فإذا تخلف الواقع وتضعضع، فتقوقع على نفسه وانزوى (القرفصاء!) حضاريا انحدر مستوى اللغة، (وثقل دمها!)، وتجهمت مظهرا ومخبرا وأسلوبا ومعنى ومبنى وتطبيقا، بل وأوغلت في الأوامر والنواهي هدرا وتعسفا, ان اللغة ترتبط بالواقع وتنبثق منه ولذا فهي تتبلور حسب درجة رقي او انخفاض هذا الواقع الأمر الذي يمكن من خلاله القول بأنها خير مرآة (للمزاج الاجتماعي) السائد (وشاشة) من خلالها تتضح درجات الشعوب في امتحانات صراع الحضارات, إن بارتفاع (درجات) اللغة حضاريا ارتفاعا (لحب الذات) الوطنية، وللوعي والتسامح، والمحافظة على المنجزات الحضارية، والنظافة، والنظام، والقدرة على احتواء الأفكار المضادة فكريا و(بموضوعية)، والثقة بالحاضر والمستقبل، وهلم جرا, والعكس حتما صحيح: فانخفاض درجات اللغة (حضاريا) ليس سوى (غراب بين) يصفق بجناحيه وينعق في أجواء (حب الذات) الأنانية، والتخلف، والتشرذم، والتشنج، والانفصام، (ولغة) العنف، وانعدام الوطنية، والشك، والغيبة، والحسد، والنميمة، وتلاشي مساحات التسامح والموضوعية، وكما يشهد التاريخ العربي المعاصر, إن تراثنا المجيد يقدم لنا أدلة وأدلة (لغوية) على شغف العرب الأوائل واعجابهم (بالعرب) ترابا وسلالة وقومية وتاريخا ومعتقدا وثقافة، وحتى جاهلية!؛ تماما كما أن (لغة) الواقع العربي المعاصر تؤكد لنا (كراهة الذات) الى درجة الأنانية مما يوضح الفارق بين لغة وفكر التحليق في أجواء العزة والمنعة آنذاك ولغة وفكر الضعف والانحطاط والتشرذم في عصرنا هذا.
لا شك في أن أوائلنا قد كتبت لهم أقدارهم في ان يعاصروا أزمنة العزة والمنعة والتفوق الحضاري للشرق الإسلامي؛ وذلك مقابل همجية وتخلف غرب آنذاك, ولا شك كذلك في أن هذه الحقيقة قد تفاعلت مع/ وانعكست على (اللغة العربية) والتي تبدو في تراثنا ككائن ممتلىء رقة وزهوا وحبا وحياة, وهذا هو في الحقيقة ما يفسر شيوع الظواهر الخارقة لعصور أسلافنا والمتمثلة في النجاح الباهر في الجمع بين العلم الدنيوي والورع الأخروي وكما هو ماثل في نوعية وكمية انتاجهم العلمي منقطع النظير جنبا الى جنب مع ما صاحبه من (ترف إنساني) غني بالفكاهة والمرح والسرور,
إن القارىء للتراث العربي ليذهل أمام قدرة علماء العصور الزاهية على التوفيق بين ما يتطلبه استخلاف الإنسان للأرض دنيويا ومصيره الحتمي أخرويا, ففي الوقت الذي تجدهم وكلهم (تحليق) في أجواء التنظير والاستقراء العلمي لأعظم نظريات عصورهم من فلسفة يونانية وعلوم فارسية وكيمياء وطب وفلك وحساب وجراحة، فلن تعدم التمتع بما أنتجوه من تراث (ترفي/إنساني): في طباع البغال، في رثاء قرد، في رثاء ثور، في تأثير البيئة في طبائع الحيوانات، في الخفاش والزرزور! في الحول، في أخبار الثقلاء والطفيليين، في أخبار الحمقى والعميان، في الفسق والمجون، في الغناء والألحان والمعازف، في العشق والصبابة والمتعة والمزاح، في اللثغة وما تقع فيه من حروف، في القبح والجمال المجسد/ المجسم، في الفكاهة والنوادر,, في الكثير الكثير من المواضيع التي لو طرقها أحدنا في عصرنا هذا لأصبح محل سخرية وتندر، بل ولوصم بالجنون,, (وأكثر من الجنون!!), إن ما يضيف على عظمة هذه الظاهرة الحضارية العجيبة عظمة هو الحقيقة التاريخية المتمثلة في ان نظرائهم الأوروبيين كانوا يغطون بنوم عميق نهاره أحلك من ليله (حضاريا), بل إن أوروبا العصور الوسطى كانت في الدرك الأسفل من التخلف الى درجة نسبتهم لبعض الأمراض الى تعكر في (مزاج!) أحد الكواكب بل واعتقادهم بأن النحل يخرج من أذناب البقر الميت!
,, كيف ولماذا انعكست الآية,,؟: سائل العلياء عنا والزمانا,,!!
ص ب 454 رمز 11351 الرياض
|
|
|
|
|