| مقـالات
بعد كل ما سبق دعونا ننظر إلى (الديموقراطية) وما تقتضيه من تشكيلات مؤسساتية وصياغات ذهنية، وما هي عليه في العالمين: المتقدم والنامي, وإذا كان المتماسون مع مفرداتنا السياسية يملكون حق القول ومشروعية الحكم، فإننا نبيح لأنفسنا القدر الكافي لصد التعديات، ونقول آسفين: (مكره أخاك لا بطل) ونتذكر قول الشاعر:
إذا احتربت يوما فسالت دماؤها
تذكرت القربى فسالت دموعها
ابتداء نحن لا نعيب (الديموقراطية) في سياقها غير الإسلامي، إذ الحكم فيها للشعب، والحكم في الإسلام لله إن الحكم إلا لله ألا له الحكم ومن أحسن من الله حكما ثم إنها خيار أهون من خيار العقيدة، وأهون من خيار المواضعات والأعراف ومجمل السلوكيات، وحين لا يكون إسلام فلسنا مطالبين بتصحيح مفردات الآخر قبل تصحيح عقيدته، ولسنا وسط هذا العالم المتعدد الخطابات وأشكال السياسة والدساتير والأعراف أكثر من دعاة، نبلغ عن الآمر ولو آية، وليس بمقدورنا إكراه الآخر ليكون مسلما, وإذ لا نقبل إعطاء الدنية في ديننا، فإن الرؤية الغربية لله وللإنسان وللحياة لا يمكن ان تذعن هي الأخرى لرؤيتنا المتلقية المجتهدة في إطار المباح والممكن, و(الديموقراطية)التي تلوح بها المعارضة العربية، ويدعي وصلها الثوريون أسلوب في الحكم، جاء في سياق خيارات غربية متعددة، حققتها ثورات دامية وحروب أهلية طاحنة، كالثورة الفرنسية، والحرب الأهلية الأمريكية، ولم تكن خليقة مبتدرة كما يتوهم البعض، وليست بسبب تمثل الحضارة اليونانية المحترمة للقانون والنظام كما يدعي الناقمون لتأثير الحضارة الإسلامية, (الديموقراطية) صيرورة فرضتها الويلات والحروب، وحققتها الاستفادة من التجارب الدامية، والأمة العربية مؤهلة لامتثال أي نظام يحترم إنسانية الإنسان، ويوفر له الحرية، وليست الأوضاع القائمة جبلة ولا خليقة متأصلة في الإنسان العربي لا مناص منها، وحالة الإحباط التي يعيشها البعض فرضتها إطلاقات الماكرين وتصديق المغفلين، والثورة الفرنسية بوصفها ام الثورات لم تكن كما يدعي المبهورون انسيابية طبيعية، لقد بدأت دموية همجية، مثلما هي عليه سائر الثورات العربية، والفرق بين الثورة الأم والثورات العربية، ان الأولى استفادت من كل شيء، ولما يستفد العالم الثالث من أي شيء, وكذلك كانت (الديموقراطية) نموا بطيئا واستكمالا مرحليا، أما (السياسة الإسلامية) فهي تكليف وتوجيه رباني، واستكمال اجتهادي لمواجهة المستجد على ضوء المقاصد الإسلامية، ومن ثم فهي متوفرة على أفضل الأنظمة وأدق الدساتير ومرنة لاستيعاب النوازل ومهيأة للاستفادة من المستجد، وتربية الإسلام أفضل من تربية اليونان، وحضارته أفضل من حضارة اليونان، وحضارة الإسلام هي التي سطعت على أوروبا من الأندلس وانتقلت إلى أمريكا عبر ملايين المخطوطات المنهوبة، والمستشرقون لا يريدون أن ينسبوا الفضل لأهله، ومن ثم نفخوا في الحضارة اليونانية، وانخدع بهذه الدعوى الخليون, وهل نفذت حضارة اليونان إلا عن طريق الحضارة الإسلامية؟ و(الديموقراطية) في هذه السياقات غير الإسلامية أفضل نظام ملائم لذويه، لأن الخيارات الإجرائية والمبدئية كالتركيبات اللونية والتداخل الصوتي، لا بد فيها من التقارب والتناغم، وتفاضلها في سياقاتها.
و (الديموقراطية) في سياقها غير الإسلامي غيرها لو دخلت في سياق إسلامي، لأنها هنا تكون تلفيقية متناشزة مع غيرها، وإذ تكون متآلفة في سياقها غير الإسلامي، فلابد لكي تؤدي نتائجها من نقلها بكل أطرها وسياقاتها، وهذا ما لا يمكن القبول به، لأنه يؤدي إلى تنازلات تمس ثوابت الأمة, فالديموقراطية في سياقها الغربي مباينة لها في استعارتها العربية, ولكي تماثل ذاتها في الموقعين لابد من نبذ السياسة الشرعية, و(البيعة) ومستلزماتها ك(الشورى) مبقية على حاكمية الإسلام, ولا يمكن الجمع بين حكم الشعب لذاته، وحكم الله لخلقه، إلا إذا رضينا بالتلفيق أو التعلمن، ولا حاجة إليهما، فمحاسن الديموقراطية دون محاسن الحاكمية الإسلامية، وما نراه من تفاوت إنما مرده إلى التقصير في التطبيق.
وأزمة الحكم والحكام ليست مرتبطة بالمرجعية، وأوضاع المسلمين القائمة لا يمكن القبول بها كأنموذج للحاكمية الإسلامية، ولو قبلنا بذلك لفتحنا على الإسلام ثغرات، ولأدناه بمقترفات المسلمين, والمتعالقون مع (الديموقراطية) يتصورون انها المنقذ من تلك الأوضاع، والخارجون إليها من الحاكمية الإسلامية حملوا معهم أدواءهم التي عوقت الحاكمية الإسلامية، ومن ثم أضاعوا إسلامهم، ولم يحققوا (الديموقراطية)، لقد تصوروا ان مجرد الإجراء الانتخابي محقق لها، وأن الاختيار مناقض لها، وأن الحرية والعدل والمساواة لا تكون إلا في ظل الديموقراطية، وكل ذلك ضرب في فجاج الوهم، وإذ لا ننكر تحقق ذلك في الغرب، فإننا في الوقت نفسه لا نبيح لانفسنا التخلي عن منهج الله الذي ارتضاه لنا، والذي ينقص الأمة الإسلامية التمثل، ومتخذو الديموقراطية ادعاء يواجهون ذات النواقص، والإشكالية كامنة في تمثل النظام: إسلاميا أو ديموقراطياً.
وإذ لا يكون ممكنا أسلمة (الديموقراطية)، فإنها غير (السياسة الشرعية)، و(الانتخاب) غير (الاختيار)، وكل هذه المصطلحات حلقات متوالية في سلسلة السياسة العالمية، ف(الديموقراطية) باقية لصناعها، و (السياسة الشرعية) باقية لمتلقيها، وكلتاهما متداولتان في التعبير السياسي، والمتماسون مع الأوضاع السياسية يجب عليهم أن يفرقوا بين خطأ المنهج وخطأ التطبيق، ف(الديموقراطية) في العالم الثالث مباينة لها في العالم الغربي، مع أنها في العالمين الغربي والعربي شرعة ومنهاج واحد، فهل أحد سأل عن تفاوتها؟ ثم إنها عند صانعيها لا تتيح فرصة لأي شرعة أو منهاج آخر أن ينافسها، وهي عند متلقيها من الإسلاميين لا تقدر على أن تزيل العاطفة الإسلامية كما العلمانية الشاملة، قد تفسدها، وقد تكون بديلا عنها، ولكنها لا تلغيها، وعندما تشكل نشزا تكون عائقا يحد من الانطلاق.
لقد عجزت علمانية (أتاتورك) عن إلغاء العاطفة الدينية عند الأمة التركية، ولما أتيحت الانتخابات الحرة للشعب التركي فاز الإسلاميون، ثم حيل بين الشعب وإرادته، ومن ثم لم يصل الحزب الإسلامي الفائز إلى الحكم كما تقتضي الديموقراطية، وهل أحد في أمريكا يستطيع ان يحول دون حكم الحزب الجمهوري أو الديموقراطي إذ فاز أحدهما بالانتخاب؟ والمغرمون بالمستجدات لا يحترمون الثوابت، ولا ينظرون إلى التلازم بين السياسة والدين، ولا يضعون حسابا لعواطف الشعوب, السياسة الشرعية عقيدة، والديموقراطية التزام، وفرق بين الاثنتين؛ السياسة الشرعية يمارسها المسلم على أنها جزء من عقيدته، والديموقراطية يمارسها صناعا ومتلقوها على أنها عقد اجتماعي ملزم، وثوابها بما توفره من عدل ومساواة وحرية, أما السياسة الشرعية فإلى جانب ما توفره من عدل وحرية ومساواة، يثاب فاعلها, ويعاقب تاركها، أفحكم الجاهلية يبغون والذين اتخذوا الديموقراطية ادعاء من المسلمين، هل تمثلوها وسلموا لها؟ لقد خسروا أنظمتهم الإسلامية، ولم يحققوا ديموقراطية الغرب، فتحملوا خسارة الدارين.
وحكم الجاهلية في القديم وفي الحديث قد يوفر الحرية والعدل والمساواة، ولكن ممارسته لاتعد بالنسبة لغير المسلم عبادة، ثم إن أمور العبادة لا تقوَّم بعائدها المباشر على الإنسان، وإنما تقوم بمجيئها على ما شرع الله، وقد يكون لبعض التكاليف حكمة ظاهرة، أو خفية، فالعبد عليه التأكد من قطعية النص: دلالة وثبوتا، ثم عليه بعد ذلك التسليم المطلق، فالله سبحانه وتعالى: لا يسأل عما يفعل أي لا يحق للمسلم أن يسأل لماذا أمر بالصلاة على هذه الهيئة؟ ولهذا قالت عائشة للسائلة عن مثل ذلك : (أحرورية أنت؟).
ناتج ما سبق: أن (الديموقراطية)و (السياسة الشرعية) ليستا متضادتين، كالأبيض والأسود في العائد المصلحي، وليستا متحدتين في التكوين والصياغة، إذ يوجد الانفصال، ولا يكون بالضرورة التناقض في النتائج، الديموقراطية تحقق: العدل والحرية والمساواة، والسياسة الشرعية تحقق: العدل والحرية والمساواة، ومن ثم فالمسألة ليست مرتبطة بالنتائج، وإنما هي مرتبطة بالحضارة، والفارق الحقيقي: أن (الديموقراطية)إجراء دنيوي صنعه الإنسان لنفسه ورضيه عند فقد البديل، و(السياسة الشرعية) تكليف إلهي يفعله الإنسان لتوفير سعادته في الدنيا وتحقيق المثوبة في الآخرة, ولو تركت لنا حرية صنع المنهج السياسي، وغاب أي توجيه رباني، بحيث عُدَّ ذلك من أمور الدنيا الخالصة، لما وجدنا بعد ذلك أفضل من (الديموقراطية الغربية) كما هي في أمريكا مثلا، لأن اجتهادنا بوصفنا بشرا لن يصل بنا إلى مستوى (السياسة الشرعية) وإنما سيقف بنا عند حد القدرة البشرية التي أنتجت (الديموقراطية) وهي أفضل منجز بشري في أنظمة الحكم البشري فيما نعلم، وفيما نعايش ويخلق ما لا تعلمون ، إذ ربما يأتي نظام بشري يفوق الديموقراطية، ولكن لن يأتي نظام يفوق السياسة الشرعية، ورهاني على امتثال النص ليس غير, ولو أن الذين نبذوا شريعتهم الإسلامية اخذوا الديموقراطية الغربية بصدق، لكان في ذلك أكبر الفائدة الدنيوية لهم، ولكن الإشكالية انهم نبذوا شريعتهم، ولم يتمثلوا الديموقراطية الغربية، كما هي في الغرب، وتلك مصيبة العالم الثالث.
ولأن كل نظام له إجراؤه فإن (الديموقراطية) تقوم تشكيلات مجالسها وحكامها على (الانتخاب) ولو قامت على (الاختيار) لما نقص ذلك من معطياتها، والحكم في الإسلام يقوم على (اختيار أهل الحل والعقد) لمن تتوفر فيه مقومات الحاكم الصالح، وقد تقصاها الفقهاء في مظانها في الفقه الإسلامي وفي الدراسات المعاصرة، وألفت دراسات في ذلك, ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
رقابة الأمة على الحكام.
طرق انتهاء ولاية الحاكم.
منهج السنة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وظيفة الحاكم في الدولة الإسلامية.
الإمامة العظمى.
مبادئ نظام الحكم في الإسلام.
ولو قامت الحاكمية على (الانتخاب) لما نقص ذلك من معطياتها، والمسألة في الحالين قائمة على صدق التوجه، وقد يقوم الحكم بعد الاختيار او الغلبة على الاستخلاف من السالف، لتتم مبايعته من أهل الحل والعقد، تكون البيعة على الكتاب والسنة الموجبة للسمع والطاعة في المنشط والمكره فيما لا معصية فيه، ولكيلا تصاب الأمة بفراغ دستوري أجيز ولم يفرض تعيين خلف بالنص أو بالممارسة والعرف، وقد جاء الإجراءان مع أبي بكر وعمر، وجاء غيرهما مع غيرهما، لقد لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، ولم يستخلف بالنص، وإنما استخلف بالإرهاص: مروا أبا بكر فليصل بالناس وقد فهم الصفوة أن إمامة الدين مرهصة لإمامة الدنيا، واستخلف أبو بكر عمر، ووضعها عمر في الستة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وقتل عثمان رضي الله عنه غدرا، ولم يستخلف، فاختار الصفوة من الصحابة علي بن أبي طالب، ولم تجتمع عليه كلمة المسلمين، وكان رضي الله عنه أحق بها، وما خرج عليه إلا البغاة، وقد كف السلفيون عن الخوض في أمر الفتنة امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالكف عن سب أصحابه، ولعدم تعلق أي مصلحة بالخوض في الفتنة, تلك كلها أشكال في طريقة الوصول إلى الحكم، للمسلمين أن يأخذوا بأحدها، ولهم أن يجتهدوا في وضع صيغ أخرى، وفي ذلك فسحة وتوسيع على الأمة، ومع هذا فلا بأس من الأخذ بأي نظام أو إجراء لا يتعارض مع المقتضيات الإسلامية و(البيعة) تقابل الترشيح الحزبي أولا، ثم الانتخاب الجماهيري ثانيا، فالوصول إلى الحكم وفق أسلوب معين يتطلب سياقات ملائمة (فالبيعة) غير (الانتخاب)، و(البرلمان) غير (الشورى) و(حكم الشعب) غير (حكم الله)، والحكم الإسلامي، غير الحكم الديموقراطي، وإن تقاطعت المقاصد، ونظر كل نظام إلى مصلحة الأمة، وكلها أنماط وخيارات تكون بالاجتهاد أو بالتلقي والتوقيف، والإشكالية ليست في العمل الإجرائي، وإنما هي في التطبيق المستجيب للمقتضى الشرعي الإلهي أو للمقتضى الوضعي البشري، الإشكالية في النتائج, لقد كان للإسلام نظامه الاقتصادي الناظر إلى أهمية التكافل الاجتماعي والعدالة الاجتماعية وضرب رؤوس الأموال بالإرث وإنصاف الفقير بالزكاة والصدقة والكفارات وحمالة العاقلة وحق الضيف والإعالة الإلزامية وغيرها، وكان للشيوعية رؤيتها التعسفية من أجل الجماعة، بحيث ألغت الملكية, وضربت غريزة حب التملك، حتى لقد قال شوقي مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم:
داويت متئدا وداووا طفرة وأخف من بعض الدواء الداء |
وكان على المسلمين استدعاء ما في إسلامهم من رؤى اقتصادية وسياسية واجتماعية وتربوية كي تحل المشاكل القائمة، لا أن ينفوا الرؤية الإسلامية، ويحلوا محلها النظام الاشتراكي أو الرأسمالي أو الديموقراطي، لقد كانت للرسول صلى الله عليه وسلم رؤيته التكافلية حي قال (أنا من الأشعريين والأشعريون مني) وقصتهم معروفة، وحين قال: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها) وقصتها معروفة أيضا، والحديثان يتعلقان بالمال والتكافل الاجتماعي, ولأننا أمة مسلمة فلا خيرة لنا في أصول الإسلام، فنحن أمة التلقي والامتثال فيما فيه نص قطعي الدلالة والثبوت، وأمة الاجتهاد والعقلية والتفكير وتوخي المقاصد الإسلامية فيما لا نص فيه، أو ما فيه نص احتمالي الدلالة, وإذا أخذنا بأطروحات الغرب لمجرد انه نجح في تحقيق أهدافه من خلالها انتقض الإسلام عروة عروة، مع أن في إسلامنا حلا لكل مشاكلنا, والأسلمة لسائر المعارف والمناهج مطلب ملح ورغبة ممكنة, و (البيعة) و(الاختيار) و(الشورى) من الناصح الأمين تغني عن (الديموقراطية) و (الانتخاب) و (البرلمانات) ومفردات السياسة الإسلامية داخلة في سياق عقيدتنا لثبوت ذلك بالنص والعمل والإقرار، ولا يمكن الإيمان ببعض الكتاب دون بعضه الآخر، كما لا يمكن الاستغناء عن الإسلام من أجل الطارئ، أو من أجل تقصير المسلمين في امتثاله, و(الانتخاب) المغاير (للاختيار) يحتاج إلى آليات ليست قائمة، وإلى أوضاع ذهنية واجتماعية ليست موجودة، وإلى قناعات لم تنشّأ عليها الأمة، والدول النامية التي جربت (الانتخاب) تعرضت لإشكالية النوعية والشمولية وعدم النزاهة؛ فالناخبون يتجهون للذات ولا يهتمون بالتنوع التخصصي: علما أو خبرة، ولربما يكون (الاختيار) أفضل من الانتخاب في تأهيل المجلس الشوري للقيام بمهماته المستدعية لتوازن التخصصات وتنوعها, لقد أراد لنا إسلامنا حسن الاختيار، ووكل الأمر إلى أهل الحل والعقد من العلماء والمفكرين والمجربين المحنكين، فلا مفر من قبول ذلك شئنا أم أبينا، رضينا أم سخطنا، جاء ذلك في صالحنا الشخصي أم لم يأت، إذ الإسلام كل لا يتجزأ، وقد رتبت الأمة أمورها على ذلك، وهيئت الأنفس لقبولها ومعايشتها بدون إزعاج أو انزعاج, واحتراما لتوفير الكفاءة رفض الإسلام طلب الإمارة، وحذر من ذلك، ولتوفير النصيحة للمسلمين قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (إنك رجل ضعيف) ونهاه عن أن يتأمر على رجلين.
والجدل إن كان ثمة جدل، يجب أن يكون في استجابة (البيعة) و (الشورى) تطبيقيا للمقتضى الإسلامي ومتطلبات المرحلة، وأن يكون حول نهوض المكلفين بواجبهم كما يريده الله، وهذا ما لم يجادل حوله المتماسون مع السياسة، إذ لم يطالب أحد منهم بالعودة إلى الإسلام، ولم ينهض أحد منهم بتقديم النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم, العلمانيون يريدون نزع نظام إسلامي وإحلال نظام علماني، ويحرضون على خلع مسؤولين وتمكين آخرين، ويتطلعون إلى إلغاء سياقات وأعراف ومواضعات متجذرة، واستبدالها بسياقات وأعراف ومواضعات مجتثة، دون تربية أو تنشئة، وهذا ما لا يمكن الجدل حوله, وإذا كانت (القضية الشورية) محسومة من قبل، فما الجدوى من تلاسن يوغر الصدور، ويثير الشك، ويبعث على الريبة، ويؤدي إلى اضطراب ذهنيات غير واعية لما يجب؟ وقد يؤدي اضطرابها إلى اختلال في الوحدة الفكرية, والخطابات الثورية تستثير العواطف بالمطالبة بحرية الشعوب ورفع الظلم عنهم، وكأن الحكام الإسلاميين وحاشيتهم وموظفيهم طغاة وظلمة واستبداديون ودكتاتوريون، وكأن الملائكيين في رفوف المستودعات البشرية يرقبون دورهم لتحقيق الطوباوية الحلم، لقد دأبت بعض وسائل الإعلام على خلق العداوات وتمكين الارتياب من النفوس بين الحكام والمحكومين، والأغنياء والفقراء، ونشأ خوف الحكام على أنفسهم وخوف الأغنياء على أموالهم، فانشغل الحكام بحماية ذواتهم وانكمشت الاموال أو هاجرت.
ولو أبحنا لأنفسنا التصدي (للديموقراطية) وبرلماناتها واجراءاتها الانتخابية في سياقاتها الغربية عرضنا أنفسنا للنقد، وفقد المصداقية, ذلك ان (الديموقراطية) الغربية نظام لا غبار عليه لو كنا غير مسلمين، ولو كنا مؤهلين لتقبلها بمثل تقبل الغربيين لها، صادقين في تمثلها صدق الغربيين في ذلك، أما وقد كان في إسلامنا ما يغنينا عنها فلا حاجة لنا بالبدائل، وإذ كنا مسلمين، فإننا ملزمون بأن نأخذ بإجراءات إسلامية، نأخذ ب (البيعة) و(الشورى) ونتحمل بكل ارتياح ما يترتب على ذلك، فليس لنا الخيرة إذا قضى الله ورسوله أمراً, و(البيعة) و(الشورى) تحققان لنا أفضل مما تحققه (الديموقراطية) و (الانتخاب) لذويهما، متى جاءتا على مراد المشرع، والمسألة داخلة في نطاق الأفضلية النفعية لا الخيرية الذاتية من خلال الإجراء التطبيقي، ولا يدخل شيء من ذلك في نطاق التضاد كما يتوهم البعض، بحيث يكون (الاختيار) الإسلامي خيراً محضاً، و(الانتخاب) الديموقراطي شراً محضاً، هذا لا يكون, فأحكام الإسلام تكون على التغليب، والخير والشر قائمان ومتصارعان، فالديموقراطية، والشيوعية وسائر الدساتير والفلسفات الوضعية (خيار) بشري مستغن عن شرع الله، وهو خليط من المنافع والمضار لأن صانعي تلك الأنظمة قراء نهمون لكل المنجزات الحضارية.
وليس هناك نص ولا حضارة يتوفران على البراءة من التأثر، والرسول صلى الله عليه وسلم قد حسم الأمر حين قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وحين أمضى عادات جاهلية، وحين وصف شريعته بلبنة في بناء منيف, والبيعة والشورى والاختيار والزكاة خيار رباني يراعي مصالح الأمة ويرفق بها, وإذا كنا لا نخول لأنفسنا إدانة (الديموقراطية) في سياقها غير الإسلامي، فإن قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أثنى على (حلف الفضول) وهو حلف جاهلي، ولم يدنه لأنه جاهلي، طالما أنه ينطوي على خير، وإذا كان الهاربون من ظلم حكامهم يجدون العدل والحرية، فإن المهاجرين للحبشة وجدوها قبل إسلام النجاشي عنده، وإشكالية الحكم، وأزمة الحكام، لا يمكن ان تعالج بحلول غير إسلامية في البلاد الإسلامية، كما أن معاضدة الأنظمة القائمة لا تتم بالنيل من أنظمة نجحت في سياقها غير الإسلامي، وإحباطات الشعوب في تجاربها التلفيقية لا يتحملها الإسلام المهمش، دعوا الإسلام يعمل كما أراد له المشرع وحاكموه, ولأن العلمانيين والهاربين من بلادهم يجدون في ظل الأنظمة الغربية ما لا يجدونه في عالمهم العربي من حرية في القول وحرية في الرأي، فإنهم يقترفون خطيئة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، ظنا منهم أن ما يجدونه في عالمهم من اضطهاد وتشريد مقتضى إسلامي، وفات أولئك أن في السياسة الشرعية ما يكفل لهم فوق ما توفره الديموقراطية من حرية في التصرف وحرية في الرأي، واقرؤوا إن شئتم سيرة الخلفاء الراشدين بوصفها الصورة التطبيقية للحاكمية الإسلامية، وإذا تعذر التمثل الحقيقي للحكم الإسلامي أوللديموقراطية فالخير ان نظل إسلاميين لنكسب إحدى الحسنيين.
|
|
|
|
|