أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 7th October,2000العدد:10236الطبعةالاولـيالسبت 10 ,رجب 1421

الاخيــرة

رأيت,, الُحزنَ,, رجُلاً,.
أنور عبدالمجيد الجبرتي
في السبعين من عمره,.
نحيل,, ضئيل,, معروق اليدين,.
يهتز مرتعشاً كورقة خريفية,.
دخل على مكتبي,, فعصف بكل شيء فيه,.
كما لوكان لفحا بركانياً,, أخترق النوافذ,, والأبواب والحيطان,, ليعبث بالكراسي، والأوراق، والمكتب، ومن يقبع وراءه،
وينشر حممه على الأسطحة ويغمس في رماده الاجفان والافواه,.
كنت مستغرقاً,, حتى انتشلني لفح السموم اللاهب،
وأخذ بمجامعي الاعصار الداوي الحزين،
واجتثتني الريح البوهيمية الرعناء.
رفعت رأسي,, فاذا أنا أمام الحزن الكبير ,, الرهيب وجهاً,, لوجه.
رأيت السَّكرة الكبرى في العينين,, المتعبتين,, المتلفعتين بالاجفان السبعينية البيضاء,.
سمعت الفحيح الداكن في الشفتين المزمومتين المتدثرتين باللحية,, الكثيفة,, الشهباء,, تحت الشارب المحفوف.
أحسست بالطوفان,, في أعماق الهيكل الانساني المرتعش,, يغلي ويضطرم،
ويصعد بخره الكثيف,, سحابات حزن داكنة,, تغشى صفحة الوجه الوقور,.
فتهطل أسى ولوعة، وتزخ ماء أسيديا
يتدفق في الاخاديد المحفورة على الصفحة القديمة,, السمراء
تلوى امام انظاري المنبهرة,, الشاخصة:
قام وجلس,.
استقام وانحنى,.
ترنح وسكن,.
حملق وأغمض,.
تمتم وصمت,.
ثم ألقى بنفسه على الكرسي,, برهة من زمن, اسند رأسه على كفيه,.
منتفضا,, في انتشاء طائر ذبيح,,.
وساد المكان صمت المقابر المهجورة.
لكنه لم يلبث أن رفع رأسه,, لينظر إليّ بعينين,, كانتا تبدوان,, كرسالتين,.
مهترئتين,, قادمتين من عصر سحيق,.
وتحدث أخيرا بصوت متحشرج مشروخ,.
قال:
بيدي هاتين كما أفعل كل يوم لفعت رأسها بمسفعها ، الصغير ووضعت لها تميمَتَهَا ,, وجبنتها ,, وحلواها,, وكراساتها في شنطتها، وزممت قبضتها الصغيرة الحبيبة على ريالها ، اليومي
وقطعت بها الشوارع,, والطرقات,.
تعدو أمامي حينا,, واتقدمها احيانا,.
تشاكسني فانهرها,, فتصالحني بالابتسامة العذبة البريئة,.
ووقفت لها بباب المدرسة حتى توارت عن ناظري,, مع صويحباتها,.
وكان آخر ما رأيته منها أطرافا من ضفائرها الرقيقة,, تتمرد على مسفعها المزموم,, لتتدحرج على ظهرها الملتفع بالمريول الرمادي,.
كان ذلك آخر العهد بها
قالوا انها تألمت كثيرا,, وانها بكت كثيراًً
ونادت اسمي
واستنجدت بي كثيراً كثيراً,.
ولكنني لم أكن هناك لاضمها إلى صدري,, وأسند رأسها الحبيب إلى كتفي,.
وأعبث بشعرها,, وأمرّغ وجهي فيه,, لاستنشق رائحة طفولتها البريئة.
صمت قليلاً,,.
ثم هب فجأة من مقعده,,ليفرغ,, على مكتبي محتويات,, شنطة مدرسية صغيرة قديمة,,تبعثرت منها أشياء كثيرة,.
قطعة تميس مقطوعة الاطراف,, قطع جبن صغيرة,, قروش معدنية، أقلام رصاص كراريس قطع صلصال صغيرة.
كانت قطعة التميس تحمل على أطرافها آثار الاسنان الصغيرة,.
قطع الصلصال كانت تنطق بالعبث البريء,.
وأوصال الجبن البيضاء,, كانت تحمل بصمات الانامل الرقيقة,.
اختلطت في عيني البقايا الصغيرة,, المتناثرة ب الحطام الذي يتهدج أمامي احتراقاً وانينا,.
ورأيت في العينين المتقدتين احمراراً كجرحين عميقين سؤالاً كبيراً مُلحّاً مثيراً,.
عن الموت,, والحياة,, والغربَة المحتومة.
انسحبت,, الى داخلي,, في صمت,.
وتجاهلت السؤال,.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved