| مقـالات
قال ابن درستويه 347ه رحمه الله تعالى عن إحدى حالات الهمزة بعد حرف ساكن: إلا أن يكون الساكن الذي قبل هذه الهمزة ألفاً في مثل سائل، ومُسائِل، وهو يُسائل، فتثبت في الكتاب كما ثبتت في اللفظ، ولا تحذف للتخفيف,, وقد أثبتت هذه الهمزة قوم ألفاً بعد الكسرة والفتحة والضمة تشبيهاً لها بالهمزة المبتدأة، وهو مذهب بعض أجلة هذا الشأن، وقد أساأ القياس من فعل ذلك، وخالف الصواب، لأن هذه لا تشبه الهمزة المبتدأة إذا كان الحذف والبدل في حذف اللفظ لها لازمين، لسكون ما قبلها، وأنها وما قبلها من كلمة واحدة,, والمبتدأة لا يلزمها، إذ كانت وما يدخل عليها من كلمتين، ولو كان سكون ما قبلها يجعلها كالمبتدأة لكان سكون ما قبل المتطرفة أيضاً يجعلها كذلك، وللزمه أن يثبت تلك أيضاً ألفاً على كل حال بعد الحركات كلها في مثل الجزء والدفء والخبء,, وهذا لا يقوله أحد من النحويين 1 .
قال أبو عبدالرحمن: ما ذكره من الإثبات في مثل مسائل إنما هو للياإ النبرة التي هي إحدى صور الهمزة بزعمهم على أساس أن الهمزة حرف لا صورة له!!,, وهذه الدعوى شذوذ عن واقع كل الحروف.
وذكر ابن درستويه مذهب من يكتب مثل استهزأ يستهزِأ وشأُون، وسفَّه هذا المذهب، لأنه رحمه الله مشدود بتأصيل خاطِإ، وإذا تم التقعيد على خطإٍ كثرت الفروع الخاطئة,, إلا أن هذه المسألة وما صحبها من تعليل واعتراض خارجة عن محل النزاع وهو الهمزة بعد سكون ، فمجال ذلك في موضعه إن شاأ الله.
ولو أصفق النحويون كلهم من أولهم إلى آخرهم على أن الخبء وأخواتها لا تكتب هكذا: الخبأ الخبأُ الخبإ الجزأ,, إلخ: لما كان إصفاقهم حجة على المنقول المسموع من لغة العرب، وعلى المحسوس الماثل للتجربة من نطق الحروف، حيث دل كل ذلك على أن الألف حرف، وأن الهمزة علامة، وأن الهمزة لا تليق بغير الألف نطقاً,, والرسم إنما هو صورة النطق.
وقال أبو عبدالرحمن سعيد ابن الدهان 569 ه: واعلم أن الممدود قد سبق ذكره 2 وجميعه يكتب بألف، وبعضهم يثبتها همزة ولا يكتب بألفين، لأن الهمزة هنا لا صورة لها، لأنها وقعت بعد حرف ساكن,, كما كتبوا الجُزء والخَبء بعد حرف نائب عن الهمزة، وإنما يكتب على صورة أصل الحركة التي قبلها,, وإن كان منصرفاً منوناً كتب في الرفع والجر بألف واحدة، وفي النصب بألفين نحو: هذا كِساءٌ، ومررت بِكِساءٍ، ورأيت كِساءً,, وإن كان غير منصرف كتب في الرفع والجر والنصب بألف واحدة , 3
قال أبو عبدالرحمن: معنى قول ابن الدهان وجميعه يكتب بألف : أن أهل هذا المذهب يكتبون الهمزة ألفاً بعد المد، فيكون في الكلمة ألفان مثل كساء يكتبونها كساا,, وكتابة الجمهور كساء جعلها مذهباً ثانياً، وكلا المذهبين خطأ، والصواب كساأَ وكساأً وكساأُ وكساأٌ وكساإِ وكساإٍ,, إلا أن وجود الهمزة على رأس الألف يغني عن الفتح ولا يغني عن التنوين، ووجودها تحت الألف يغني عن الكسر ولا يغني عن التنوين، والضم يشكَّل على كل حال.
ووقوع الهمزة بعد حرف ساكن لا علاقة له ألبتة بتجريد الهمزة من حرفها وإلغاإ الحرف، وما يتكرر من قولهم:لا صورة لها أسلفت بطلانه بالبراهين فلا أكرر ذلك إلا أن توجد زيادة تعليل,, ورُسمت رأيت كساءاً في المطبوع من كتاب ابن الدهان هكذا كساء ,, وذلك خلاف قاعدته التي ذكرها نصاً، فلعل ذلك تطبيع أو خلل في عمل النُّساخ,, والصواب على كل حال لبست كساأً .
وقال ابن الدهان أيضا: فإن سكن ما قبلها وكانت طرفاً فالناس على حذفها نحو الجُزء والجَزء والمَرء، وللكسائي في هذا قولان:
أحدهما: أن تكتبها على حركتها التي تستحقها.
والثاني: على حركة ما قبل الساكن الذي قبلها إلا أن يكون ما قبل الساكن مفتوحاً فإنه يعود إلى القول الذي يكتبها على حركتها 4 .
قال أبو عبدالرحمن: مضى تحقيق كل ذلك في مناقشة كلام ابن كيسان,, وفصَّل الأمر أبو العباس القلقشندي 821ه ، فقال: أن تكون الهمزة آخراً، ولها حالتان أيضاً:
الحالة الأولى: أن يكون ما قبلها ساكناً، والنظر فيها باعتبارين:
الاعتبار الأول: أن يكون ما قبلها صحيحاً فتحذف الهمزة وتلقى حركتها على ما قبلها ولا صورة لها في الخط نحو: جزء، وخبء، ودفء، والمرء، وملء,, سواأٌ في ذلك حالة الرفع والنصب والجر وقيل: إن كان ما قبل الساكن مفتوحاً فلا صورة لها، وإن كان مضموماً فصورتها الواو، وإن كان مكسوراً فصورتها الياأُ مطلقاً,, وقيل: إن كان مضموماً أو مكسوراً فعلى حسب حركة الهمزة، فيكتب الجزء والدفء بالواو في الرفع وبالألف في النصب وبالياإ في الجر، وإن كان شيأٌ من ذلك منوناً فيكتب بألف واحدة وهي البدل من التنوين,, وقيل: يكتب بألفين,, إحداهما صورة همزة، والأخرى صورة البدل من التنوين.
الاعتبار الثاني: أن يكون ما قبلها معتلاً فينظر إن كان حرف العلة زائداً للمد فلا صورة لها نحو نبيء، ووضوء، وسماء، والسوء، والمسيء، وقرّاء، وشاء، ويشاء، والماء، وجاء,, إلا إن كان منوناً منصوباً فيكتبه البصريون بألفين، والكوفيون وبعض البصريين بواحدة, وهذا إذا كان حرف العلة ألفاً نحو: سماء,, الألف الواحدة حرف العلة والأخرى البدل من التنوين، فإن اتصل ما قبله ألف بضمير مخاطب أو غائب فتصور الهمزة واواً رفعاً نحو هذا سماؤك، وياءً جراً نحو نظرت إلى سمائك، وألفاً واحداً هي الف المد نصباً نحو رأيت سماءك,, أما إذا كان حرف العلة ياءً واواً نحو رأيت وضوءاً فيكتب بألف واحدة,, وإن كان حرف العلة غير زائد للمد فلا صورة للهمزة في الخط 5 .
قال أبو عبدالرحمن: قول القلقشندي: فتحذف الهمزة تسامح منه في التعبير بناأً على مذهبه ومذهب غيره، لأن المحذوف ما يسمونه صورة الهمزة من ألف، أو واو، أو ياإٍ ,,أما الهمزة فقد أثبتها في أمثلته.
وقوله: تلقى حركتها على ما قبلها بيَّنه أبو محمد عبدالله بن علي الصيمري من أعيان القرن الرابع الهجري ، فقال عن الهمزة: فإن كان الساكن الذي قبل الهمزة المتحركة حرفاً صحيحاً: فإن تخفيف الهمزة أن تُلقى حركتها على الساكن الذي قبلها وتحذفها كقولك في الدفء والخبء: هذا الدَّفُ، ورأيت الخَبَ، ومررت بالخَبِ 6
قال أبو عبدالرحمن: المراد حقيقة الرسم والهمزة محققة، وليس الغرض بيان جواز التسهيل ونقل الحركة، فذلك موضوع آخر له رسمه الخاص.
ومثال حرف العلة غير الزائد للمد رأيت ضوأً,, فهو عندهم يرسم هكذا: ضوءاً,, وكل أمثلة القلقشندي سبقت مناقشتها,, وأما اتصال الهمزة بالضمير فله حديث مستقل.
***
كلمة ختامية
قال أبو عبدالرحمن: تلخص من كل ما سبق حقيقة الهمزة العلامة في لغة العرب، وحقيقة الألف الحرف في لغة العرب أيضاً، وتحددت قاعدة الهمزة المتطرفة، وأنه لا مسوغ لحذف ألفها ألبتة، وأنها لا تكتب إلا على الألف أو تحتها، وأنها تشكل كما يشكل غيرها من الحروف,, وبهذا أفرغ من إحدى مسائل رسم الهمزة، وأخشى أن تملوا من متابعة الحديث عن بقية أحوال الهمزة، فإلى لقاإٍ إن شاأ الله، والله المستعان.
الحواشي:
1 كتاب الكتاب ص 30.
2 انظر باب الهجاإ ص 15.
3 باب الهجاء ص 31 32, تحقيق فائز فارس ط مؤسسة الرسالة طبعتهم الأولى 1406ه.
4 باب الهجاإ ص 43.
5 صبح الأعشى 3/208 209 تحقيق محمد حسين شمس الدين ط دار الكتب العلمية ببيروت طبعتهم الأولى عام 1407ه.
6 التبصرة والتذكرة 2/734.
|
|
|
|
|