| الثقافية
لأن الشعر الحديث وظّف عناصر واستخدم تقنيات وأدوات تعبير جديدة ومختلفة، عن تلك التي وظّفها الشعر القديم، ولأن المعاصرة فرضت عليه ان يكون مواكباً لها إن لم يكن متقدما عليها ومستشرفاً لها في اساليبه وابتكاراته وتوليفاته للمكتشفات التي يمكن الاستعانة بها والاستفادة منها في الأداء الشعري، وبخاصة تلك التي تبارى الرواد في دعم نصوصهم بها كالرمز والأسطورة والحلم والفكر والفولكلور والفنون والأنواع الادبية الاخرى، فقد كان لابد لهذا الشعر الحديث بطرقه ومضامينه واشكاله وانجازاته المتجددة من نقد حديث لا يقل عنه تنوعا وغنى وحداثة ويمتاز بقدرته على قراءته ومقاربته وتحليله وتصنيف اتجاهاته ومدارسه وظواهره وابرز معالمه وأوجه الجدّة والحداثة فيه وما اضاف الى التراث العربي من اضافات جديدة وما سجل من تجاوزات واختراقات للثقافة العربية بعامة وللسياق الشعري فيها بخاصة ولأعراف هذا السياق وقواعده ومفاهيمه وللتجارب والرؤى والمواقف الجديدة التي جسدها هذا الانجاز ومستوى نجاحه او اخفاقه فيها او في بعضها.
وفي تطور لافت عن النقد العربي القديم الذي كان يُعنى ببعض الجوانب والعناصر في العملية الشعرية والذي كانت عنايته تنصب بدرجة مبالغ فيها إن لم يكن هذا هو كل ما استطاع وعيه وادراكه وثقافته ومستوى تطوره على المظاهر الخارجية او المصاحبة للشعرية من لغة وبلاغة وبيان وأغراض وفنون، وليس على الشعرية ماهية وعناصر ووحدة، وتجارب ورؤى ومواقف، اضافات وتجاوزات واختراقات وانحرافات.
ومع استفادة النقد الحديث من مواكبته لهذا الشعر قراءة وتأملاً، ومن لمحات نقدية نادرة وطليعية اضاء بها بعض النقاد القدامى بعض ظلمات ابداعات زمنهم، كما عند ابن قتيبة والآمدي والجرجاني، ومن النقد الغربي الحديث ونظرياته ومدارسه، ومن سائر العلوم الانسانية التي تطورت وشاركت في الثقافة الانسانية وطرقها ووسائلها في الدراسة والتحليل والاستنباط ورصد النتائج، فقد استطاع تقديم اضافات مهمة من خلال ما لحقه من تطور بفعل العوامل السابقة، وبفعل الصيرورة والتحول الدائمين اللذين هما ناموس الوجود وحادي ركبه المسافر أبداً ودائماً الى المستقبل، ودون الالتفات لمن يقف او يحاول وضع العثرات في طريق المتقدمين ابداً الى الأمام.
ولأن ما شهده القرن العشرون من تحولات وتطورات عالمية شديدة التنوع والاختلاف، وفي شتى الميادين والعلوم والنشاطات الانسانية، اثر في الانتاج الثقافي والانساني الذي يُشكل الشعر وجهاً من وجوهه ومظهرا من مظاهره، فقد كان هذا النتاج الشعري شديد التنوع والاختلاف والتطور ايضا، فمن شعر هو من بقايا الكلاسيكية الى شعر رومانسي الى رمزي وسرياني الى حداثي تتفاوت درجة تمظهره والتزامه بمذهب او مدرسة او اتجاه أيدولوجي أو غير أيدولوجي، وملتزم برؤى ومواقف فكرية وفلسفية او نضالية او غير ملتزم، وتأثري وانفعالي، واجتماعي او قومي او ذاتي او جمالي او عبثي أو ضائع الهوية، مما جعل التوجهات النقدية في النقد العربي الحديث تشهد وتواكب هذا التنوع والاختلاف، موظفة طاقاتها وامكاناتها في قراءته وتحليله ومتابعته، وكل بحسب النظرية التي يحملها والمنهج الذي يُطبقه والوسائل التي يستخدمها ومحاولاً، وكل في نطاقه، توظيف ما يستطيع مما ينجزه الاخرون وما وصلوا اليه في مجال النقد بخاصة وفي سائر العلوم الانسانية من فلسفة ونظريات جمال وعلوم ايضاً بعامة، مما اضفى على هذا النقد، تنظيرا وتطبيقا ونتائج، شراء وتنوعا وتكاملا او اختلافا او تناقضاً، ولم يخل هذا النقد من الارتجالية او الانطباعية او التأثرية، كما لم يخل من الزيف والكذب وتوظيفه في اغراض غير ثقافية وغير انسانية، وإن اتفق النقاد جميعا في التصريح دائما بأن النقد أعمق واوسع من مجرد الشرح والتحليل او التقييم او التقويم فقط، وانه عمل ابداعي مواز للابداع الذي يقومون بمقاربته، مع انه يقوم على قراءة وتقييم النص ومستوى نجاحه او اخفاقه الفني الا انه نشاط فلسفي يملك رؤى ومواقف وأشكالاً تجسد هذه الرؤى الفلسفية وما يصدر عنها من مواقف، ليس تجاه العمل الابداعي المقروء فقط، وإنما تجاه ما وراءه وما يمور من خلاياه وما يكمن من حالات وما يتشكل من هموم وقضايا ومستوى الشاعر في شعرنة وعيه بنفسه ووجوده وحريته وجدلياتها.
ولقياس مستوى النص، كان لابد لكل ناقد، وسواء صرح بذلك ام لا، من اللجوء ولو ضمناً الى المقارنة والموازنة بين النص المقروء ونصوص اخرى للمبدع او لغيره وبينه وبين السياق الذي يشتغل عليه، مهما ادعى التجرد من الحمولات والخلفيات، وأياً كانت قراءته تشريحية تفكيكية او بنوية او اسلوبية او اسقاطية نفسية او اجتماعية او فكرية.
وكان الخلط الأكبر، والذي اصاب ويصيب كثيراً من النقاد، شعورياً أو لا شعورياً، ويظهر في مقاربتهم للنصوص، وعلى الرغم منهم، هو قراءة ومنتج النص لا قراءة النص، او الخلط بين القراءتين، بحيث يطغى ما يسقطه الناقد على منتج النص على قراءته وبحيث ينحرف عن الغاية النقدية الى غايات شخصية نفسية او اجتماعية او فكرية، او عرقية، والى آخر ما يمكن ان ينجم عن هذا الانحراف وهذا الخلط من افلاس أو تيه نقدي.
ولاختلاف مستويات النقاد، فقد كان منهم الريادي والطليعي والتقليدي الجديد والمستورد والمثقف والمزيف الى آخر ما يمكن ان يتصف به اصحاب أي صنعة، مثل الشعراء ايضا، وان يميز منهم من اتخذ النقد رسالة تعمل على توعية الانسان وتثقيفه وتغييره والارتقاء بذائقته وتطويره.
|
|
|
|
|