| الاقتصادية
هل نستطيع أن نغادر لغة الكلام لنبحر مع لغة الأرقام؟
أظن,, والكلام للدكتور محمد الرميحي أن هذا ممكن خاصة في عصرنا الذي تسوده التقنيات العالمية التي اعتمدت على الأرقام اعتمادا تاما، حتى غدت تشكل لغة ورؤية حاسمة لا تحتمل التأويل.
ولكن، ورغم هذه الأهمية، إلا أننا ينبغي أن نحذر ونحتاط خوفا من تضليلها، إذ ربما جاءت بوجه غير وجه الحقيقة.
ومع ذلك، تبقى هذه اللغة مع الذين يحسنون التعامل معها، تبقى أصدق إنباء من الأقوال العائمة.
يقول الأستاذ محمود المراغي: لا أظن أن هناك فترة في التاريخ تم فيها التعبير عن أحوال البشر بالأرقام بقدر ما حدث في آخر حقبتين.
ولا عجب، فقد كانت سنوات الانتقال من قرن الى قرن، غنية بالاحداث، وغنية أيضا بنشاط منظمات دولية أفرزت أدبيات تعبّر عن الأبرز في هذا العالم ابتداءً من الحروب وكم تكلف، والسلام وكم يساوي, وامتدادا لحرب الايدز وحرب المخدرات وملوثات البيئة والملفات السوداء للشره الاستهلاكي واستنزاف الموارد الطبيعية القابلة للنضوب والانحرافات السلوكية الاقتصادية المتنوعة الأخرى.
وغني عن البيان أن استقبال القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة، ينبغي الا يقتصر على اطلاق الشعارات والأشعار، بل ينبغي أن يكون استقبالا محاطا بالحذر وهذا يتطلب منا وقفة مع ذواتنا بغية اعادة حساباتنا ومعرفة واقعنا على حقيقته، وهذا يحتاج الى أن نولي لغة الأرقام أهمية خاصة لمواكبة عصر التقنيات.
وفي حقيقة الأمر فإن الأرقام دائما تحمل في اشاراتها معاني مهمة تتطلب قراءة متأنية قبل اتخاذ القرار.
ويمكن القول إن الأزمات التي تقع فيها البشرية ما كانت إلا بسبب تغييب الأرقام.
وفيما لو توقفنا مع بعض الأرقام التي استخلصها الاحصائيون حول قضايا عربية وعالمية، لفوجئنا بأرقام يمكن القول إنها محزنة ومؤلمة، وخاصة حين تكشف الأرقام بعض عجائب هذا العالم المحجوبة عن العيون, إن الأرقام تحمل لنا كثيرا من العجائب الرقمية التي تستدعي أن نضع خلفها علامات استفهام ليس طلبا للحلول بقدر ما نطلب تبريرا لها، فكيف يحتوي عالمنا على 358 مليارديرا تتكدس الأموال في خزائنهم فيما يزداد الفقر تفشيا في مختلف انحائه، فأين القيم الانسانية التي تدعو الى حياة تليق بالانسان؟!
والأرقام كذلك تبين أن عدد العرب وصل في منتصف التسعينات الى 255 مليون نسمة بينهم 73 مليونا يعيشون تحت خط الفقر و10 ملايين يعانون من نقص التغذية، ووسط هذه الأحوال التعيسة تنشط الهجرة، والسعيد الذي يستطيع كسر القمقم وفك القيود لينطلق من الجوع والقهر نحو حياة أفضل.
ففي القرن الجديد، سوف تبرز معادلة من ينتج ومن لا ينتج نفطا، فاحتياطي النفط في الكثير من البلدان سوف يصبح صفرا, سوف تجف الآبار وتبحث البشرية عن مورد جديد.
وفي القرن الجديد، سوف تتأكد ظواهر بدت في الأعوام الأخيرة من القرن العشرين، ومن أبرز هذه الظواهر ما يمكن تسميته أفول الحكومات سوف يصبح العالم كتلة كبيرة من الفقراء، وكتلة صغيرة من الأغنياء، والكتلة الأخيرة تنتظم في شركات متعددة الجنسية تحرسها حكومات تدعي السيادة.
آن لنا الآن أن نقف قليلا مع لغة الأرقام؟!
في دراسة قام بها مركز دراسات الوحدة العربية لاستشراف مستقبل الوطن العربي حتى عام 2015م اتضحت حقائق كثيرة من الماضي والحاضر، كما برزت توقعات كثيرة مثيرة حول المستقبل.
وقد سجلت الدراسة عددا من الأرقام المهمة التي تعطي مؤشرات مذهلة.
إذ خلال العقدين 19651985م تضاعف عدد سكان الوطن العربي, وتضاعف متوسط الدخل مرتين وزاد حجم المدن ثلاثة أضعاف، وعدد المدارس والجامعات وقدرتها الاستيعابية أربعة اضعاف، اي أن هناك نموا ماديا يسبق نمو السكان باستمرار.
وتقول الأرقام إن الشرق الأوسط هو الأفقر مائيا بالقياس للعام كله،حتى أفريقيا جنوب الصحراء والتي تعرضت كثيرا لأزمات الجفاف والتصحر، تملك موارد مائية أكثر.
إذ وفق أرقام البنك الدولي فإن الأكثر شراء في العالم من حيث نصيب الفرد من الموارد المائية الداخلية والمتجددة في البلدان المختلفة هي أمريكا اللاتينية والتي يزيد متوسط نصيب الفرد فيها على المتوسط العالمي أكثر من ثلاث مرات, أما ذيل القائمة فهو الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والذي لم يتجاوز فيه المتوسط 1071 مترا مكعبا من المياه العذبة.
أيضا، فإننا اذا نظرنا الى نوعية النشاط واستخدامات المياه كمؤشر على مستوى التقدم فإننا نجد أوروبا قد استخدمت 42% من مسحوباتها المائية في أغراض الصناعة ونسبة قريبة من ذلك في أغراض الزراعة.
وعلى العكس، تجيء المنطقة العربية لتستهلك 89% من هذه المياه للزراعة، و5% فقط للصناعة أما الاستهلاك المنزلي، والذي يشمل المتاجر والمرافق العامة، فإنه لا يحتل عندنا نصف ما يحتله في أوروبا، حيث تقف النسبة عند 6% فقط من المياه.
وتقول بعض الأرقام إن خسائر الاقتصاد العالمي من التدخين بلغت مائتي مليار دولار, ومع ذلك فإن الخسائر لا تمنع شركات السجائر وأهمها سبع في العالم من أن تواصل التجديف ضد التيار, فكلما زادت حملات التوعية بأخطار التدخين، وكلما اشتدت حملات الدعاية لمقاطعة السجائر، زاد نشاط شركات التدخين لكسب مستهلك جديد.
مائتا مليون امرأة تدخن، مقابل أكثر من مليار رجل, أليس ذلك مغريا لشركات السجائر؟
جاء في أحد تقارير البنك الدولي التنمية في العام 1992م اشارة لسبعة أنواع من المشاكل البيئية تتعلق بالماء والهواء, والمناخ والتربة والنفايات وازالة الغابات والتنوع الحيوي في العالم.
ويقول التقرير ان هناك بحارا تحتضر وأنهارا في طريقها للاختفاء وملوثات تنتشر برا وبحرا وجوا تخنق وتسرطن وتدمر وتستنزف.
وفي تقرير آخر عن التنمية في العالم لعام 1995م تأتي اشارة واضحة لقضية اتساع الفرق بين الفقراء والأغنياء وامكان أو عدم امكان لحاق الفريق الأول بالفريق الثاني.
يقول التقرير إن نسبة دخل الفرد في أغنى البلدان بالقياس لأفقر البلدان قد زادت بشكل مطرد.
إذ بين عامي 1870م و1960م أخذت العلاقة بين الاثنين شكلا آخر, حتى أصبح متوسط دخل الأكثر ثراءً يعادل متوسط دخل الأكثر فقرا بمدار 38 ضعفا, ولكن في عام 1985م أي بعد ربع قرن من عام 1960م أصبحت النسبة 1 52 أي أن دخل الأثرى يزيد على الأفقر بمقدار 52 ضعفا.
والبون يزداد اتساعا.
ومن ثم، فلم تعد قضية الفقر خارج جدول أعمال العالم، إذ وفقا لأرقام البنك الدولي أيضا فإن الفقراء فقرا مدقعا الذين يقل متوسط دخل كل منهم عن دولار يوميا يزيد عددهم على المليار نسمة.
وجاء في تقرير البرنامج الانمائي للأمم المتحدة عن التنمية البشرية 1996م: تبدو ظاهرة العسكرة واضحة، فالدول العربية هي الأعلى إنفاقا في العالم كله على الجانب العسكري.
وبينما يبلغ متوسط ما ينفقه العالم كنسبة مئوية من الناتج المحلي على الجوانب العسكرية 3,2%، فإن الانفاق على الدفاع في الدول العربية قد بلغ 7,6% من الناتج المحلي.
وللأسف فإن العالم لعبته السلاح، فمنذ أن اصبح التسليح تجارة وصناعة، ومنذ أن أصبح عائده جزءا مهما من اقتصاديات الدول، منذ ذلك الوقت، صار الخلط شديدا بين التجارة والسياسة وبين السياسة والحرب.
وفي كل الأحوال، فقد نمت تجارة السلاح، وأصبحت المعاهد العلمية معنية برصد اتجاهاتها, وتوقفت هذه المعاهد أمام العالم الثالث الذي يعاني الفقر والعوز.
ففي احصاءات معهد سيبري باستكهولم ورد أن واردات العالم الثالث من السلاح قد قفزت لأكثر من ستة عشر ضعفا، حتى إن واردات السلاح أصبحت في نهاية التسعينات تقدر بأكثر من 150 مليار من الدولارات.
وبقراءة عكسية للأرقام نستطيع أن ندرك مغزى ما يجري في الشرق الأوسط.
وفي احصائيات الأمم المتحدة حديث آخر عن الفرار من الأوطان، حيث إن هناك 17 مليون لاجىء في العالم وللحقيقة، فإن الأرقام تتجاوز ذلك بكثير، فاللجوء السياسي الرسمي جزء صغير من حالات الفرار.
تقول الأرقام أيضا إنه في عام 1960م كان أغنى 20% من سكان العالم يحوزون 70% من دخل العالم لكنهم في عام 1990م أصبحوا يحوزون 85% من هذا الدخل.
وفي تقرير صادر عن الأمم المتحدة عام 1991م، ذُكر أن ديون العالم الثالث عام 1990م قد بلغت 1,2 تريليون دولار أي 1200 مليار من الدولارات, وتنبأ التقرير بأن تظل أعباء الديون ثقيلة ومرهقة لعشرات السنوات القادمة.
وطبقا لأرقام البنك الدولي عام 1991م فإن الغذاء يستهلك نصف حجم الانفاق العائلي وربع الانفاق كله يتجه للخبز والدرنيات، أما الرعاية الطبية فلا تنال أكثر من 3% من الاستهلاك وبما قد لا يزيد على ثلاثة دولارات في العام.
وتستمر لعبة الأرقام لتثبت الاستنتاجات المحزنة.
إنها لعبة الفقر والثراء، الفقراء يأكلون أقل، ويوجهون معظم دخلهم لرغيف أسود وقطعة من البطاطس، فالرغيف وقطعة البطاطس أو حفنة الأرز تلتهم معظم الدخل الضئيل, ومن ثم، فلا يبقى منه شيء للترفيه أو التثقيف أو السياحة.
ختاما أقول وبكل أسف، إنها أرقام فاضحة كاشفة محزنة مذهلة.
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
|
|
|
|
|