| منوعـات
في الأزمنة القديمة دخلنا جميعا دون تردد في حمى التقدم, نشأ في داخلنا أيام الطفرة وهمٌ جميل أو احساس عميق بأننا خرجنا من العالم الثالث, بدأنا نتصرف ونتحدث مع الآخرين على هذا الأساس, يمكن أن أسميه الآن وهم ولكنه كان حلما سهل المنال حتى أنه بدا واقعا قائما آنذاك, كان الوهم تحت رعاية مصطلح ربما نسيه كثير منا في الوقت الحاضر, ذلك المصطلح الذي أسهم بدور عظيم في حياتنا قبل ربع قرن من الزمان, من منا لا يتذكر كلمة البنية الأساسية , علمونا أن البنية الأساسية هي القاعدة التي تنهض عليها الأمم, فالعالم المتخلف، متخلف لعدم توفر البنية الأساسية والعالم المتقدم، متقدم لأنه يتوفر على البنية الأساسية, وهذا ما كان ينقصنا,, وهذا ما ينقص أفريقيا وكثير من دول آسيا وأمريكا الجنوبية,
نحن جزء من العالم الثالث؛ لأننا لا نملك العصا السحرية التي اسمها البنية الأساسية, كل وزير وكل وكيل وكل مدير عندما تسأله: لماذا لم تفعلوا هذا أو ذاك يجيبك بسرعة وبدون تردد: نحن بصدد وضع البنية الأساسية, انتظروا لا تتعجلوا الأمور.
كانت مدن المملكة ورشاً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى: حفريات في كل مكان: عمال في كل مكان, معدات ثقيلة في كل مكان, مليارات الريالات تصرف في كل مكان, وما كنت تشاهده في الرياض كنت تشاهده في جدة.
وما تشاهده في جدة، تشاهد مثله في الدمام, وضجيج المعدات وصخب العمال الكوريين ورنين المليارات وعندما تدخل البيت تسمع أصداء هذا كله على صفحات الجرائد ووسائل الاعلام الأخرى, تصريحات، قصائد، مدائح إلخ.
عندما ذهبت في منتصف السبعينات الى لندن، انتابتني دهشة عظيمة, انفجرت في خيالي حالة مقارنة غير معقولة, فجأة وخلال سبع ساعات فقط انتقلت من بيت خرب تجول فيه صراصير الأرض بحرية مطلقة وسكنت في فندق كمبرلاند في وسط لندن, خرجت للشارع أكسفورد ستريت وفي كل لحظة أسأل نفسي: هل هذا حقيقة؟ ذهول ودهشة وانبهار, ولكن بعد ثلاث سنوات فقط انطفأ إحساسي بعظمة لندن, كنا نعيش بين الوهم والحقيقة أو بين الحقيقة والخيال, كانت الرياض تنمو باطراد وتسارع حتى ظننا أن أصغر مدينة سعودية تجاوزت لندن, هذه الورشة لا تكف أبدا عن الضجيج فتحول التوقع الى حالة قائمة وتحول الوهم الى حقيقة, وإحساسنا بالفعل بأننا خرجنا من العالم الثالث نهائيا.
فالعالم الثالث لا يمكن أن يكون فيه مطار كمطار الملك خالد، أو مبنى كمبنى جامعة الملك سعود، أو تجهيزات مثل التجهيزات التي يمتلكها المستشفى التخصصي, أو ملعب كاستاد الملك فهد.
ونحن نحلق ونطل على العالم بكبرياء المباني الأسمنتية، كان الوهم يهتز من تحتنا دون أن نوليه انتباهنا، لأنه كان يجوب بنا عوالم جميلة كبساط الريح,
ولكنه، أخيرا، قرر أن يوقظنا في المكان الصحيح فحطَّ بنا في وسط أفريقيا على ضفاف الوادي المتصدع.
لمراسلة الكاتب yara4me@yahoo.com
|
|
|
|
|