| الثقافية
تهفو نفس القارىء المحب للأدب العاشق للفن الى الاطلاع على النص الأدبي الذي يتميز بالاصالة والابتكار والجدة والابداع, والفطرة السليمة تكره التقليد في الأدب وتمجه, ومن التقليد ما يلبس ثوب التجديد ولكنك لو أمعنت النظر لوجدته صدى لانتاج آخر, وأغلب المقلدين ليست لهم رسالة في عالم الأدب إلا حب الشهرة الزائف والملق الرخيص.
وقد قام في الأدب الحديث جماعة من المجددين الكبار الذين تميزوا بالاصالة والابداع والعمق, ومن هؤلاء الاعلام عبقري من عباقرة التنوير كان في أوائل القرن قلما ذا تأثير خطير وكان بالامكان أن يستمر لولا أن اصابه داء السوداء والاكتئاب فانغلق على نفسه وانزوى عن عالم الفكر, ذلك العلم الشهير هو المرحوم عبدالرحمن شكري.
ولعل القارىء الذي يقرأ هذه الاشادة بهذا العبقري المظلوم يذكر أبياته التي يقول فيها:
لئن خانني الذكر الجليل,, وملني مسامع قومي أو غلبت على أمري سيروي عظامي شاعر,, بدموعه وينثر أزهار الربيع على قبري إذا جاءني الليل البهيم,, أطاف بي خيالا له يزري على صفحة البدر يجيء مجيء النوم من حيث لا أرى ويسمعني ما قد قرضت له شعري |
وقد ولد هذا العبقري من أب قد هاجر الى مصر من المغرب وكانت ولادته في مدينة بورسعيد عام 1886 فهو أكبر سنا من صديقيه العقاد والمازني بثلاث سنوات، وقد التحق عبدالرحمن الشكري في الثامنة من عمره بأحد الكتاتيب في بورسعيد ولكن عهده بالكتاب لم يطل أكثر من عام، وتعلم فيه الكتابة والقراءة وجزءا من القرآن ولكن كان أولاد كبار الموظفين والأعيان يجلسون على رصيف مرتفع قرب مقعد المعلم وباقي التلاميذ يجلسون على حصير كما ذكر شكري في احدى رسائله.
وفي نحو التاسعة التحق شاعرنا بمدرسة الجامع التوفيقي الابتدائية ببورسعيد ومنها حصل على الشهادة الابتدائية سنة 1900 وتابع دراسته حتى التحق بمدرسة الحقوق, وفي سنة 1909 أرسل في بعثة الى جامعة شيفلد بانجلترا حيث قضى هناك ثلاث سنوات درس خلالها التاريخ الأوروبي والانجليزي والاقتصاد والاجتماع والفلسفة والسياسة الى جانب اللغة الانجليزية وآدابها, وفي عام 1912 حصل على درجة الجامعة وقفل راجعا الى أرض الكنانة.
وتقلب عبدالرحمن شكري في وظائف مدرسية مديرا لمدارس مختلفة في أنحاء مصر حتى عام 1938 حيث طلب الاحالة على المعاش, وقد اصدر شكري عدة دواوين فأصدر ديوانه أضواء الفجر عام 1909 ثم اتبعه بديوانه لآلىء الأفكار وأناشيد الصبا وزهر الربيع .
وكان عبدالرحمن شكري مبتكرا غواصا في أعماق النفس الانسانية يقترب في فكره الفلسفي من أبي العلاء المعري,, وكان متبرما لأنه لم يلق التكريم الذي كان يرى أنه يستحقه يقول في هذا المعنى:
أألقى الموت لم أنبه بشعري ولم يعلم سواد الناس أمري وفي نفسي من الأبد,, اتساع تدور الكائنات بها وتجري فمن للقلب يطربه بلحن يحن إليه من نظم ونثر ومن للكون يرمقه بفكر شبيه الفكر في سعة وقدر إذا ظمىء الفؤاد إلى كمال رأى طول الخلود كقيد شبر |
وبالاضافة الى مكانته كشاعر رائد فإن شكري يعتبر ناقدا كبيرا ذا رؤيا شاملة, والشعر في رأيه ليس ترفا بل ضرورة من ضروريات الحياة وذلك لأنه يصور الحياة الانسانية بخيرها وشرها كما يعبر عن خوالج النفس البشرية والأدب بوجه عام ليس حلية لفظية ولا زينة اجتماعية وإنما هو أحد المقومات الجوهرية في الحياة المتحضرة.
يقول عبدالرحمن شكري: فالشعر هو كلمات العواطف والخيال والذوق السليم, فأصوله ثلاثة متزاوجة، فمن كان ضئيل الخيال أتى شعره ضئيل الشأن ومن كان ضعيف العاطفة أتى شعره ميتا لا حياة فيه فإن حياة الشعر في الإبانة عن حركات تلك العواطف وقوته مستخرجة من قوتها، وجلاله من جلالها، ومن كان سقيم الذوق أتى شعره كالجنين ناقص الخلقةلقد بقي لنا من شكري الكثير بقي شعره الذي طبع في ستة أجزاء وبقي نقده البليغ لكبار شعراء العربية والذي نشره على حلقات في مجلة الرسالة, وبقي أيضا نقد لصديقه المازني وكثر تنظيره النقدي للخيال ومفهوم الشعر.
وقد فارق شاعرنا الحياة عام 1958 ورثاه العقاد بقصيدة مطولة من جيد الشعر مطلعها
بعد إبراهيم,, شكري اليوم أودى قرب الرحل,, لقد قاربتَ بعدا |
وقد تنبأ العقاد بقرب رحيله بعد صديقه شكري في هذه الأبيات ويعلم الجميع أن هذه التنبؤات لم تصدق حيث مات العقاد رحمه الله بعد ستة أعوام من وفاة عبدالرحمن شكري.
|
|
|
|
|