| الثقافية
* منذ عشرين سنة تقريبا كان لأحمد بادويلان حضور متصل في الصحافة ومن ثمار ذلك الحضور مجموعتان من المقالات أصدرهما في كتيبين هما بين قوسين وعلى مسؤوليتي .
* وسبقت لنا اشارات الى اقبال أهل هذا العصر على جمع ما ينشرون في الصحف والمجلات، وما يذيعونه في الاذاعات وهذا حسن من حيث هو.
* غير ان هناك من يلملم هذه دون تخير فياتي فيها بما فقد قيمته لانتهاء مناسبته وعدم اشتماله على ما يفيد مؤرخ الحياة الفكرية بوجه عام.
* ولا أريد اشارة ما قلته سلفا فلننظر فيما قدمه لنا بادويلان في بين قوسين الذي نشرته دار طويق سنة 1414ه في 76 صفحة من القطع المتوسط، وقدم له الناشر بمقدمة حسنة اثنى فيها على الكاتب وكتابه واصفا هذه المقالات بأنها تحمل سمة البقاء لما اشتملت عليه من معالجات موضوعية في الأدب والاعلام والاجتماع وما الى ذلك من شؤون الحياة والاحياء مشيرا الى ان كاتبها قد اعاد النظر فيها مهذبا ومجودا، وهذا يعني انها لم تبق على صورتها في الصحيفة، وهذا عمل حسن على أي حال.
* ويشتمل هذا الكتاب على احدى وثلاثين مقالة 31 شغلت سبعاً وستين صفحة 67 أولاها الأديب يموت مرتين ومادة هذه المقالة حديث على أديبين أمريكيين توقفا عن الكتابة فكان ذلك الموت الاول ثم انتحر فكان الموت الثاني.
* وللكاتب تعقيب على انتحار الأدباء قال منه ص 8 ولولا اختلاف الأوضاع الاجتماعية بيننا وبين الغرب ولولا وجود عقيدة الايمان بداخل أعماقنا,, لكنَّا نسمع كل يوم عن حالة انتحار أديب عربي، وربما نسمع عن انتحار جماعي لبعض الأدباء فهناك كثير من الأدباء العرب تجاوزتهم عربة العصر ولكنهم يستمرون بنفس الأسلوب القديم الذي يرفضه الجيل الجديد، فهم يرفضون ان يكتبوا بأسلوب العصر ويرفضون التوقف عن الكتابة! وأحيانا نجد العكس , وهذا يعني ان الأديب المسلم أقوى من غيره على مغالبة الهزيمة الفكرية، ان صح التعبير.
* وفي حديث عن القصة حكم الكاتب عليها بالغياب وبروز الشعر، ولست أدري أي شعر يعني فموجة الشعر قد تراجعت وأوشكت على الانحسار وحلت القصة محل الشعر إلا ان يكون عنى هذا الذي يزعمونه شعرا وما هو بذاك.
* واجمل ما في هذا المقال هذا التساؤل الذي طرحه وهو قوله ص 11: وهنا أطرح سؤالا: هل يحق للمشرف على الصفحات الادبية ان يفرض توجهه الابداعي الى احد الفنون الأدبية على القراء بشكل مكثف، ويعطي الجوانب الابداعية الاخرى ما تبقى من مساحات شاغرة .
* ومن طريف تساؤلاته والطريف عنده كثير قوله ص 12: وهذا يجرنا الى تساؤل آخر وهو: هل المفروض ان يهبط الكاتب الى مستوى قرائه؟ أم المفروض ان يرتقي القارىء الى مستوى كاتبه المفضل؟! والمفروض طبعا ان يرتقي القارىء الى مستوى كاتبه المفضل، وهذا تنقية حقيقية مرة نلمسها وهي ان الكتّاب الاكثر شعبية هم اولئك الذين لا يقدمون فكرا ناضجا ووعيا متميزا بقدر ما يستهوي قراءهم التسطح والمفارقات والطرف والمواقف، واذا بررنا ذلك بأننا في عصر السرعة والفيديو والتلفزيون فالسؤال الذي يطرح نفسه هو ألا يملك القارىء متسعا من الوقت لقليل من الفكر والعمق الثقافي؟!
* وهذه اشكالية عسيرة المعالجة فجل القارئين يريدون من الأديب النزول الى مستواهم مع كون مهمته رفعهم الى حيث هو.
* ويوشك أديبنا بادويلان ان ييأس من أهمية الكتاب في مستقبل الثقافة العامة بل انه حكم في ص 19 على الكتاب بالموت إلا في حالة واحدة هي بقاؤه مرجعا للاكاديميين والباحثين وهذه نظرة متشائمة وان كنا نعترف ان الكتاب لم يعد كما كان، ولكنه ما يزال ضرورة، وضرورة ملحة.
* على ان أديبنا يتراجع ويتفاءل بعودة المجتمع العربي الى القراءة بعدما أرهقه الاستعمار بالأمية التي أشاعه بوسائله المختلفة التي صيرنا نصدقها وهي كذب ووهم، كذب من الأعداء ووهم لدينا.
* واذا وجدنا هذه المقالات تولي الكتابة والأدب وافر نصيب، بل انها وقف عليهما فان ذلك ليس بعجيب عند أديب يحسن واقع الأدب والأدباء بكل ما فيه من حلاوة ومرارة، ولذا نجده يسأل لماذا ينصرف الناقد عن الابداع المسموع ثم يجيب على ذلك بمثل قوله ص 28: فهناك الكثير من المعدين الاذاعيين اساءوا لشيء اسمه الأديب الاذاعي ان كان حقا موجودا فهم يلجئون في أغلب الاحيان الى الارتجال في الاخذ من كتب التراث بشكل يدفعنا الى التساؤل: ألا يوجد لدينا من الأعمال الجيدة في عصرنا الحاضر ما يمكن ان نعد منه مادة اذاعية يمكن ان تعرف بعطاءاتنا الفكرية في عصر أصبحت القراءة فيه لا تعني أو تهم إلا فئة قليلة فتلقي عليه الضوء، ليعرف المستمع ان هناك أدبا محليا جديرا بالقراءة؟
* وأقول لو انهم وقفوا انصرافهم على التراث لكان لذلك مسوغه.
* لكنهم يتجهون الى الأقلام الحديثة الوافدة وقد يبعدون وكثيرا ما يكون ذلك فيعلقون بأدباء الغرب والشرق وكأن أمتهم باتت فقيرة فكريا الى حد أنهم لم يجدوا عندها ما يملأ أوراقهم.
* وهناك مقالة: شعراء بالاكراه اتمنى لو قرأها شعراء هذا العصر ففيها خلاصة تجربة صادقة، صدق الكاتب في تصويرها والتعبير عنها بما ختمه بقوله ص 33 ما أود ان أخلص اليه من السرد الذاتي السابق هو ان كثيرا ممن يكتبون القصائد الشعرية اليوم لا تختلف تجربتهم الشعرية عن تجربتي ولا نظرتهم الى أنفسهم عن نظرتي أيامها الى نفسي، ولكن الفرق بيني وبينهم انهم لم يستشيروا مختصا كما استشرت، لينتفعوا كما انتفعت، وانما واصلوا اندفاعهم نحو الوصف، وراحوا يفسدون أذواقنا خلالها! فليت هؤلاء يعرفون حقيقة أنفسهم ويتركون الشعر لأهله، فالوساطة والعلاقات الحسنة والاصرار والالحاح لا تصنع شاعرا! ولعل هذا ما جعل الكثير من الشعراء الحقيقيين يبتعدون عن الساحة بعد ان تحول الجميع الى شعراء بالاكراه! .
* ومن معالجات أديبنا الواقعية الطريفة ايضا حديثه عن هذه الكلمات: رضاء الناس غاية لا تدرك وان شاء الله و الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية وهي معالجات طريفة وواقعية كما ذكرت، ولكني لم اجد من الكاتبين من عالجها، ولا تلك الكلمات التي تدل على خلط المفهوم واستعمال هذه الكلمات في غير مواضعها كمثل: أديب وشيخ وأستاذ ,,, وهكذا.
* وفي حديث أديبنا عن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية قال في صدر مقالته : النقاد العرب أنواع: بعضهم ورد، وبعضهم شوك، وبعضهم طيور تغرد وتطرب، وبعضهم طيور تتعب، وبعضهم يقطع الشجر المثمر ويمجد الشجر العقيم، وبعضهم يكتب بمسؤولية كأنه يمثل أمام محكمة وقد أقسم ألا يقول إلا ما هو صدق وحق، وينظر الى النقد على انه جسر بين الأثر الأدبي والقراءة، فيستفيد القارىء والكاتب في آن واحد .
* هذا التقسيم للأدباء وضعه القاضي السوري زكريا تامر، فيه كثير من الموضوعية وبعض القسوة أيضا على النقاد, لذا نجد ان كثيرا من النقاد قد صمتوا ليس لعدم مقدرتهم على تحقيق المعادلة الصعبة، ولكن لأن تصنيف النقاد يخضع لعدة آراء متضاربة، ولكل وجهة نظره الخاصة في الناقد، وايضا أتى صمتهم ذلك لأننا مازلنا نفتقر الى كثير من اخلاقيات الحوار الحضاري الفكري، فكثير من نقاشاتنا وحواراتنا الأدبية كشفت لنا عن عدد من الأقنعة المزيفة التي يرتديها عدد من النقاد، حيث يتحول الحوار الفكري الى حوار شوارعي! أرجو المعذرة لقسوة هذه الكلمة حوار لا يخلو من القذف والشتائم ليصل الى النيل من الشخص والتعرض لسلوكياته وتصرفاته الشخصية! وما يدور من حوارات فكرية وأدبية حاليا ينفي تماما المقولة المعروفة: الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ، ويمكننا تصويبها حسب مقتضيات المرحلة فنقول الخلاف يفسد للود ألف قضية ، فكثيرا ما أدت النقاشات والحوارات للقطيعة ما بين الأدباء، وأنهت كثيرا من العلاقات الحميمة في الوسط الأدبي.
* اني أرثي كثيرا لحال النقاد فان مدح أحدهم قيل عنه مرتزق واذا لم يمدح قيل انه يريد ان يقتل المواهب الابداعية واذا صمت قيل لماذا صمت!!
* ومن عناوينه ما يشدك لقراءة الموضوع كمثل : اسهال من نوع مربح وهو عنوان ذكرني قول احدهم معرضا بأحد المؤلفين هذا اسهال في التأليف واذا كان هذا القول الذي ذكرته باطلا فان ما تحدث عنه هو حق منه اشارته الى دكتور ينشر له في كل يوم في الصحف ما لا يقل عن اربع مقالات يعدها سكرتاريون ثلاثة وليست له فيها إلا الفواتح والخواتيم.
* واذا كان بادويلان عرف ذلك في الكتابة الصحفية فان له نظيرا في التأليف وأنا أعرف شخصا له أربعة كتبة انزلهم في غير المدينة التي هو فيها ووفر لهم الكتب ورسم لهم الخطط فكانت المؤلفات التي تنسب اليه.
* وفي حديث الكاتب عن ساينتفك امريكان تتحدث العربية مر بالتدريس في كلياتنا الطبية والهندسية وكليات العلوم ونحوها باللغة الانجليزية ولكن مروره كان متعجلا مع كون هذه القضية محتاجة الى موقف جاد من الكاتبين ومن العاملين في الجامعات ولكن هذا الموقف لم يأت بعد مع كون التجربة في تدريس الطب باللغة العربية قد نجحت كما أثبت ذلك الدكتور زهير السباعي ومن قبله الجامعات السورية، فمتى يستيقظ المسؤولون عن هذه القضية فيدركون خطأهم في استمرارهم على هذا الذي هو من مخلفات الاستعمار في البلاد العربية التي استعمرت سلفا أخذ وضعه عندهم وجئنا فقلدناهم فيه فاذا كان التقليد من حيث هو مما ينفر منه فكيف اذا كان فيما هو باطل.
* وعلى أي حال فمقالات هذا الكتاب تشهد بصدق قول الناشر انها مقالات موضوعية تحمل سمة البقاء لاشتمالها على توجيه وارشاد ونقد هادف افرغ في أسلوب أدبي سائغ وهو ما عرفته في كتابات بادويلان.
|
|
|
|
|