| مقـالات
اسمحوا لي أن أستعيد معكم الرباعية التاسعة من قصيدة من أغاني الرعاة للشاعر أبي القاسم الشابّي، التي اضطرّنا إلى قطع حديثنا عنها حرصُنا على الالتزام بالمساحة المخصصة لعمودنا (آفاق وأنفاق)، ولا أعتقد أنها مازالت عالقة بالأذهان لدى قراء العمود، وذلك لكثرة مشاغل الحياة وازدحامها، يقول الشابّي:
لن تعلّي يا خرافي في حمى الغاب الظليل فزمان الغاب طفلٌ لاعب، عذب، جميل وزمان الناس شيخ عابس الوجه، ثقيل يتمشّى في ملالٍ فوق هاتيك السهول |
الأمان أو الإحساس به على الأقل، يختلف من شخص الى آخر، ومن جيل إلى جيل، ومن خلق إلى خلق، فالدورة الزمنية العُمرية لدى دودة القز مثلا مختلفة عما لدى الآدميين أو غيرهم من الحيوان والنبات، والوحدات التي تتخذ للقياس لاشك أنها مختلفة هي الأخرى، ويومُ شمال الأرض غير وسطها وجنوبها, (وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدّون) الحج/ 47 (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المعارج/4 وربما مثلت الأربع والعشرون ساعة لبعض المخلوقات أو في بعض المجرات، دهراً طويلاً ثقيلا، بينما لا تمثّل الأربع وعشرون سنة إلا كلمح البصر، عند مخلوقات أخرى، وهكذا، وقد نتوافق في وحدات القياس الزمني وإيقاعاته، ولكن نختلف في إحساسنا، به فالزمن السعيد غير زمان الشقاء، قال أحمد شوقي متحدثا عن حياته في (زحلة):
يا جارة الوادي، طربتُ وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك لم أدر ما طيبُ العناق على الهوى حتى ترفّق ساعدي فطواك لا أمسِ من عمر الزمان ولا غدٌ جُمع الزمان فكان يوم لقاك |
ويقول بحتريّ الأندلس، أحمد بن زيدون:
يا أخا البدر سناءً وسنىً رحم الله زمانا أطلعك إن يطل بعدك ليلي، فلكَم بتُّ أشكو قصر الليل معك |
وتغني أم كلثوم في قصيدتها (عودّت عيني على رؤياك):
وإن مرّ يوم من غير رؤياك ما ينحسبشِ من عمري |
فالشابي يرى أن الأزمنة كالأمكنة، يمكن ان تخبث وأن تطيب، وما علينا إلا أن نغتنم الفرصة السانحة لاستثمار أزمنتنا وأمكنتنا، والاستمتاع بها حتى الثمالة، بينما يرى المتنبي أن لا ذنب للزمان ولا للمكان أيضا، وإنما تطيب الأمكنة والأزمنة بالحالّين فيهما، أي بالإنسان، فهو الذي إن شاء جعلها سعيدة جميلة، وإن شاء جعلها جحيما مقيما، يقول المتنبي:
نعيب زماننا، والعيبُ فينا وما لزماننا عيب سوانا |
وهذا الاختلاف في الرؤية راجع لاختلاف الفلسفة التي يؤمن بها هذان الشاعران، فبينما يمثل المتنبي الواقعية، ويدين بالقوة المطلقة للإنسان، نجد الشابي يمتلىء بمشاعر الرومانسيين، ورقتهم وبكائياتهم.
والغاب موئل للرومنسيين، وملجأ دافىء يلجأون إليه، ويبتردون في ظلاله، كلما التهبت من حولهم الحياة، وهكذا كان يفعل الشابي في الكثير من قصائده، يقول في قصيدته أيتها الحالمة بين العواصف :
أنت كالزهرة الجميلة في الغا ب، ولكن ما بين شوكٍ وورد |
وفي قصيدته: (تحت الغصون) يقول:
ها هنا في خمائل الغاب، تحت الزّ ان، والسنديان، والزيتون أنت أشهى من الحياة وأبهى من جمال الطبيعة الميمون |
* وللشابّي أيضا ولع بأغاني الرعاة، فهو يقول في هذه القصيدة نفسها:
للأغاني التي يرددها الرا عي، بمزماره الصغير، الأمين |
ويقول في قصيدة: (ذكرى صباح):
وضبابُ الجبال ينساب في رفقٍ بديعٍ، على مروج السهول وأغاني الرعاة تخفق في الأغوا ر، والسهلِ، والرُّبَى، والتّلولِ |
* وعودة إلى رباعيتنا التاسعة نجد التناغم بين زمني الغاب والناس متمثلا موسيقياً في البيتين الثاني والثالث: (زمان الغاب طفل) (زمان الناس شيخ) (لاعب+ عذب+ جميل= صفات سريعة مفردة) (عابس الوجه+ ثقيل+جملة: يتمشّى,,, الخ = صفات من الناحية الكمية = بيتا ونصف بيت)، مما يؤكد ثقل زمن الناس، وخفة وجمال زمن الغاب.
* ولنكمل الحديث عن القصيدة بإيراد الرباعية العاشرة:
لكِ في الغابات مرعاكِ، ومسعاكِ الجميل وليَ الإنشاد، والعزف، إلى وقت الأصيل فإذا طالت ظلالُ الكلأِ، الغضّ،الضئيل فهلمّي، نرجع المسعى إلى الحي النبيل |
إن الحديث عن القصيدة هو حديث عن الغاب، والمشاهد الطبيعية الرائعة، عن الشاعر وشياهه المحظوظات التي قسّم بينه وبينها الأدوار، فهي تواصل رعيها، وهو يعزف لها اللحن الجميل من شَبّابته، ثم يعود معها الى ديار الحي شأن كل الرعاة، وينسدل النهار عن يوم عابر، لتستقبل الحياة في الغد صباحاً جديداً، ومرعى جديدا، وسوف يزداد إعجابنا بالشاعر، إذا استحضرنا في أذهاننا أنه يكتب مثل هذه القصيدة التي يدعو فيها للاستمتاع بالحياة، وهو واقع في قبضة المرض، يعاني من داء تضخم القلب.
|
|
|
|
|