| مقـالات
الوطن كيان واحد متكامل، جسد يتكون من أعضاء يحمل بعضها بعضاً ويخدم بعضها بعضاً، ويحمي بعضها بعضاً، هكذا تكون صورة الوطن المتلاحم والأمة الواحدة، ولنا أن نرسم صورة الوطن في الأذهان، بصورة جسم الإنسان، وإذا كان العقل يدبر، والقلب يشعر، والحواس الأخرى تقوم بدورها في خدمة الجسم، فالعين تبصر له الطريق، والأذن تسمع له الأصوات واللسان يتحدث عنه، والقدم تسير به، فإن للوطن في كيانه ما للجسم في بنيانه، فله العقل الذي يدبر، والقلب الذي يشعر، واللسان الذي يعبر وهكذا دواليك.
وإذا كان للسان أهميته في تركيبة جسم الإنسان، فهو الذي ينقل مشاعره، وما يفكر فيه إلى الآخرين، وبه يُحكم على أقدار الناس ومكانتهم، وقيمهم، فإن له أهميته في تركيبة الوطن للأسباب ذاتها.
ولأهمية اللسان حذّر الإسلام من عواقبه، وكل الأمم لها في التحذير من عثرات الألسن ما لا يمكن الاحاطة به لكثرته وتنوعه، ولعل ذلك كله ينحصر في الحكمة العربية القائلة إن البلاء موكّل بالمنطق ، والناس كما يقال صناديق مغلقة حتى تتكلم، فإذا تكلمت بان ما تخفيه، ووزنت أقدارها بما تبوح به، وهذا ما دل عليه الحديث الشريف الذي قال في الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ: كف عنك هذا وأشار إلى لسانه ليؤكد لمعاذ ان اللسان ذو خطر كبير في حياة البشر.
وإذا أعدنا تأمّل جسد الوطن لنتعرف على أعضائه فإننا سنجد الإعلام هو اللسان الناطق الذي بعبر عن الوطن والمجتمع والأمة، ومن هنا يتأكد لنا دور هذا اللسان الكبير في البناء أو الهدم، وتتأكد لنا أهمية الرعاية الصحيحة لهذا اللسان والعمل الدائب على تقويمه وتدريبه حتى تستقيم لغته، ويتحقق له من التوجيه السليم والتهذيب ما يجعله وسيلة اصلاح وبناء واقناع لمن يستمع إليه بما ينقله من الأفكار والقيم.
إن الإعلام لسان متميز بما أتيح له من الوسائل التي تجعله أقوى تعبيراً، وأعمق تأثيراً، فهو يملك من الصوت والصورة وحسن العرض ما يدخله في صف وسائل التربية والتوجيه لأفراد الأمة وأبناء الوطن، وهذا بلا شك يزيده خطورة وقوة ومكانة، ويوجب العناية به وحمايته من شوائب هذا العصر الدينية والفكرية والخلقية التي تنتشر في طول العالم وعرضه كما تنتشر النار في الهشيم.
وإذا أردنا أن نلملم أطراف الحديث ونركز هنا على بقعة مهمة جداً في هذا العالم، لها من قوة التأثير، ومن القيمة المعنوية والمادية ما يجعلها ذات مسؤولية عظيمة في الاصلاح والتوجيه، والرقي بالأخلاق والقيم والأذواق، أعني بها بلاد الحرمين .
إذا أردنا أن نركز على هذه البقعة المهمة، وعلى جانب الإعلام منها فإننا نؤكد بهذا التركيز، الحرص الشديد على أن يكون لسانها الناطق الإعلام منسجماً مع تكوينها المتكامل روحاً وعقلاً وشعوراً، مرتبطاً بهذا التكوين ارتباطاً يوافق ما يحمله من مبادئ وقيم وأخلاق ويحقق الآمال المعلقة به من المسلمين في كل مكان.
هذه هي القاعدة الصحيحة التي تنطلق منها مناقشة العلاقة بين الإعلام والوطن بصفة عامة، وبين الإعلام والأمن بصفة خاصة، وفي بلادنا الآمنة المستقرة والحمد لله، بصفة أخص.
* السياسة الإعلامية للمملكة العربية السعودية سياسة واضحة مرسومة الخطوط محدودة المعالم منشورة في كتيب وثقت به بنودها وأصبح مرجعاً مهماً للإعلام بكل أنواعه المقروء والمسموع والمشاهد، وفي كتيب السياسة الإعلامية من وضوح الرؤية والهدف ما يشعر بأن مراعاة الانسجام الكامل مع رسالة المملكة ودورها الإسلامي الكبير كان نُصب أعين ولاة الأمر حين أقروا هذه السياسة الإعلامية المتزنة.
ومن جانب آخر يتضح في هذه السياسة الشعور بخطورة دور الإعلام داخلياً وخارجياً، وحساسية هذا الدور بسبب تأثيره المباشر في بناء الفرد والمجتمع، وفي صياغة الثقافة العامة للأجيال بل وفي توجيه السلوك البشري توجيهاً مهماً لعلاقته بالأمن في كل جوانبه وأبعاده، ويمكن للقراء الكرام ان يطلعوا على كتيب السياسة الإعلامية للمملكة حتى يروا بأعينهم صياغته المتميزة.
لقد أشرت في مقالة سابقة نشرت هنا إلى أهمية الأمن في الأوطان وأنه نعمة عظيمة ينعم الله بها على عباده، ويمتن بها عليهم وأوردت في تلك المقالة من الآيات والأحاديث ما يؤكد عظم هذه النعمة الكبيرة، وأهمية رعايتها بشكر الله عليها، وبتطبيق شرع الله الحكيم لحمايتها من عبث العابثين.
وهذه النعمة العظيمة الأمن لا تتحقق إلا في مجتمع متماسك منسجم سليم من الاضطراب والازدواجية التي تسبب القلق والأرق وهما عدوان لدودان لهدوء النفس البشرية واستقرارها.
ولأن تربية النفس البشرية وتعليمها وتوجيهها توجيهاً صحيحاً مهم جداً في استقرارها ذهنياً ونفسياً واجتماعياً، فقد أُوليت هذه التربية وما تزال عناية خاصة من الأمم على اختلاف مشاربها واتجاهاتها.
ولا شك أن المنزل، والمسجد، والمدرسة، والشارع، والإعلام هي الجهات التي ترعى هذه التربية للإنسان رعاية مباشرة، وعلى قدر تكاملها وانسجامها في أدوارها يكون تكامل النفس البشرية وانسجامها واستقرارها، وبذلك كله يتحقق الأمن في الأوطان الذي يعد من أعظم النعم.
كيف يؤثر الإعلام في الأمن؟
لوسائل الإعلام سحر خاص يمكنها من التأثير السريع والقوي على نفس المتلقي فإذا كان المتلقي طفلاً أو فتى مراهقاً كان التأثير أسرع وأقوى، وهو تأثير متسلط لا يتوقف عند حد المتعة كما يتوهم كثير من الناس بل يتجاوزها إلى الاقناع والتأثير وتثبيت الصورة في مخيلة المتلقي.
وما تزال الدراسات الميدانية تجرى في انحاء العالم من قبل متخصصين في التربية والدراسات الاجتماعية، وكلها يؤكد هذا السحر الاعلامي، ويثبت قدرته على توجيه السلوك البشري.
وهذا التوجه للسلوك هو الذي يجعل علاقة الإعلام بالأمن قوية فإذا كان توجيه السلوك ايجابياً كان أثر الإعلام في أمن الوطن ايجابياً، ولا شك أن الأثر السلبي سيكون نتيجة للتوجيه السلبي, كيف يكون الإعلام ايجابياً في توجيه السلوك وفي تحقيق الأمن؟
الإعلام كما أشرنا وسيلة من وسائل التربية والتوجيه، بل ربما نكون على صواب حينما نشير إلى أنه في مقدمة تلك الوسائل التربوية من حيث التأثير، ولذلك فهو إذا لم ينسجم من الوسائل الأخرى قادر على التشويش عليها في أداء مهمتها، بل على تعويق أداء تلك المهمة.
ومن الأمثلة على ذلك ما نراه من تأثير بعض الفتيات المسلمات بالتقليعات الغربية التي يبثها الإعلام عبر وسائله المختلفة في الأفكار والأزياء مع أنهن نشأن في بيوت مسلمة ملتزمة بآداب الإسلام، ويدرسن في مدارس منضبطة بضوابط الإسلام، وينتمين إلى مجتمع مسلم له آدابه وأخلاقه، لماذا يحدث هذا؟؟، وهل وسائل الإعلام وحدها هي المسؤولة؟!
وأقول: لسنا هنا بصدد بيان نسبة المسؤولية في هذا، ولكننا نؤكد ان لوسائل الإعلام دورها الكبير في وجود هذا الأنموذج، فإذا أضيف إلى ذلك التقصير في التربية السليمة في البيت والمدرسة والمجتمع حدثت المشكلة بحجمها الكبير الذي يظهر لنا في نماذج الانحراف العقدي والثقافي والسلوكي الذي يؤثر سلباً في التربية.
إن الإعلام مكمل لوسائل التربية، والتربية السليمة هي التي تنشئ بإذن الله جيلاً سليماً، والجيل السليم هو الذي يحقق الأمن الذي ننشده، ولربما صنعت صورة واحدة خاطفة تظهر على شاشة التلفاز ما لا تصنعه التربية في سنوات، وليست من باب العبث تلك الدراسات العلمية التي أثبتت ان النسبة الكبرى من الأعمال الاجرامية في العالم التي يرتكبها المراهقون والمراهقات انما هي بسبب أفلام وبرامج الجنس والعنف التي تعرضها شاشات التلفاز.
واذا لم يكن الإعلام منسجماً مع قيم المجتمع والاسرة المسلمة، مكملاً للتربية في البيت، والتوجيه في المسجد، والتعليم في المدرسة، أصبح وسيلة للتشويش والإرباك والازدواجية عند الناشئة، وهنا يحصل الانحراف والعياذ بالله الذي يشكل خطراً على الأمن الذي ينشده الناس.
نحن بأمس الحاجة حينما نربي شبابنا على الرجولة في بيوتنا، ونرسخ شعورهم بها من خلال نصوص الشرع الحكيم، أن تكون المادة الاعلامية بكل أنواعها مكملة لهذه التربية محققة بالصوت والصورة لهذه الرجولة التي تقتضي أن يكون لصاحبها رصيد من صفات الخلق الحسن والشيمة والكرم والإباء، فإذا عرضت المادة الإعلامية مع شيء من الهالة صورة الشاب المائع المتسكع فإنها بذلك تعوق منهج التربية ويحدث بذلك الخلل الذي يصيب أنفس الشباب بالاضطراب بين مطالب التربية السليمة ومرامي المادة الإعلامية السقيمة فتنشأ بذلك ناشئة مهزوزة الشخصية منحرفة السلوك وفي ذلك من الاخلال بالأمن ما لا يخفى.
إن من أخطر ما يهدم أمن المجتعات اضطراب شخصية الإنسان وعدم استقرارها، وان عدم الانسجام وفقدان التكامل والتعاون والتنسيق بين البيت والمسجد والمدرسة ووسائل الإعلام هو الذي يغرس شجرة الاضطراب الخبيثة في نفوس الاجيال ومن هنا تحدث الثغرات في جدار الأمن الذي يتوق الجميع إلى إحكام بنائه.
كيف يتم هذا الانسجام بين هذه المواقع التربوية المهمة، وكيف يتسنى لوسائل الإعلام أن تؤدي دورها المنشود؟
هذا ما سأحاول الإلمام به في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.
* من تجارب الآخرين التربوية:
يشير د, محمد عبدالعليم مرسي في كتابيه: التربية في اليابان المعاصرة، والتربية في ألمانيا، إلى أن من أهم عوامل نجاح بناء الإنسان عندهم الانسجام المتكامل بين محاضن التربية، فالطفل ينشأ هناك في استقرار نفسي وذهني وعاطفي بحيث لا يجد فرقاً بين ما يعلّمه البيت والمدرسة والشارع والإعلام، ويؤكد ان الانسجام في التربية هو الذي يربي الشخصية المتزنة، وبالرغم من عدم صحة الدين الذي يدينون به، ومن وجود خلل في الأخلاق والسلوكيات عندهم بمقياس الشرع الإسلامي، إلا أن الانسجام بين جهات التربية هناك فيما تقدمه للناشئ، حتى ولو كان بعض ما تقدمه غير صحيح من الناحية الشرعية الصحيحة، يؤدي إلى بناء شخصية مستقرة قادرة على العطاء والانضباط.
ان الطفل الياباني مثلاً يرى أمه وأباه ومجتمعه الخاص بصورة لا تختلف عما يراه في الشارع، وفي المدرسة، وفي الصحافة، وفي التلفاز فهو مستقر تربوياً، وإن كان دينه غير صحيح، ومن هنا ينشأ الطفل عندهم عملياً جاداً مثمراً في عطائه الوظيفي حسب تخصصه.
وإنما ينشأ الاضطراب عند الطفل حينما يرى أمه وأباه في البيت بصورة معينة ويتلقى الايحاء بأن هذه الصورة هي الصحيحة، ثم يصدم بصورة أخرى مخالفة في الشارع، أو على شاشة التلفاز، أو في المدرسة، ويجد ما يوحي إليه بأن هذه الصورة الأخرى هي الصحيحة، هنا تنشأ شخصية مضطربة ضعيفة في عملها وأدائها، وهذا ما يحرص التربويون على التخلص منه لبناء مجتمع سليم مستقر آمن.
|
|
|
|
|