| شرفات
* لندن: إبراهيم معروف
عند الحوار مع رجل بمثل ثقافة وتاريخ وتعدد الاختصاصات المهنية والابداعية كالأستاذ نجدة فتحي صفوة ينبغي التنبيه مسبقا الى تأكيد حقيقة انه ليس من السهل تحاشي تقاطع الاختصاصات المتنوعة التي يمتلكها والرغبات الانسانية التي تفرض نفسها على الحوار، والذكريات المؤثرة والمندفعة بكل ألوان الطيف لتلوين صورة المقابلة.
وفي الواقع لا يمكن انجاز خبرة الرجل وتاريخه وتنوع اختصاصاته في حوار واحد ومقابلة متفردة وان طالت شجونها.
حين عمل دبلوماسيا لفترة تزيد على الخمسة والعشرين عاما كان التأليف والتوثيق هاجسه.
وحين انخرط في الكتابة الأدبية منذ مطلع شبابه، قادته مؤهلاته ورغبته الى السلك الدبلوماسي.
وبين هذه وتلك برزت شخصيته كمحامٍ وكمؤرخ ومؤلف له أكثر من اثني عشر كتابا وخمسة كتب اشرف على تحقيقها وكتابة مقدمتها، فضلا عن زاويته اليومية الشهيرة هذا اليوم في التاريخ التي دامت سبع سنوات.
حوارنا معه يتناول جانبا من تجربته الدبلوماسية، اخترنا فيها محطاته العربية الثلاث من بين ثماني محطات عالمية وعربية شكلت تجربته في العمل الدبلوماسي، وأسعده الحظ في لقاء المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود قبل رحيله بستة شهور، وقد ترك عنده انطباعا عميقا ما لبث يتذكره وكأنه حدث أمس، وقد خصه بعمل موسوعي يقع في 75 مجلدا تبلغ صفحات كل جزء 400 صفحة تضمنت كل الوثائق التي تحدثت عن الملك عبدالعزيز في الأرشيف البريطاني ما بين أعوام 1900 1953 .
ونحتاج الى حلقة أخرى من الحوار لنتعرف على أسلوبه كباحث وكمؤرخ والتكنيك الذي اتبعه للخروج بمؤلفات توثيقية ستبقى خير عون للباحث من قبيل الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية ومجموعة الوثائق البريطانية عن المغفور له الملك عبدالعزيز وكذلك المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز، إن اسلوب اختيار الوثيقة وكيفية تدقيقها والخروج بحكم نهائي فيها قبل النشر، ومدى امانته كباحث وماهية ادواته وفريقه في الترجمة وفي المراجعة الختامية يشكل تجربة متكاملة تستوجب حوارا خاصا نفرد له حلقة في المستقبل القريب.
نجدة فتحي صفوة دبلوماسياً
حين اختار نجدة فتحي صفوة الدراسة في كلية الحقوق، كان يعرف جيدا حينها أنها مفتاحه للوصول الى السلك الدبلوماسي وحالما استكمل دراسته الجامعية تقدم لاجتياز امتحان القبول في وزارة الخارجية كانت تساعده في ذلك معرفته بالانجليزية التي درسها في المعهد البريطاني ببغداد فضلا عن مؤهله القانوني وثقافته الأدبية.
وتم قبوله في شعبة الصحافة بوزارة الخارجية امضى فيها حوالي السنة، قبل أن ينقل الى لندن كملحق ثقافي، وكعادته وهو المجدّ دائما في جمعه بين الوظيفة والدراسة، التحق بكلية الدراسات الشرقية والافريقية بلندن لدراسة أدب المهجر تحت اشراف البروفيسور آرمري المستشرق المتخصص في الأدب العربي والفارسي وأحد مترجمي القرآن الكريم,, ولم يتسن لنجدة مناقشة اطروحته إذ تم نقله الى عمان العاصمة الاردينة وحينها كان الملك عبدالله الأول ملك الأردن فكانت محطته الأولى كسفير في بلد عربي.
عمّان محطتي العربية الأولى
* هل هناك سبب مميز وراء الانتقال الى الأردن بهذه العجالة وقبل أن تكمل دراستك؟
كان ذلك في عام 1949 بعد قرابة ثلاثة أعوام في لندن حينما طلب اليّ أن اشغل مكان سفيرنا في الأردن الذي كان طريح الفراش، وكنت شابا حينها، ورغم صغر سني نسبيا مقارنة بباقي السفراء، فقد كانت لي حظوة خاصة لدى الملك عبدالله الأول لقد كنت سفيرا لابن عمه، وكنت التقي به ثلاث مرات في الأسبوع على اقل تقدير، بالطبع الى جانب اشخاص آخرين ولكنني كنت أمثل الأسرة الهاشمية.
* حديثي معك يدور حول ذكرياتك مع الملوك والرؤساء العرب أثناء عملك الدبلوماسي، فما هي شخصية الملك عبدالله الأول، وما هي ذكرياتك عنه؟
كان الملك عبدالله شخصية محبوبة، يحب الأدب والشعر، وكان يصغي، وبرأيي فإن الاصغاء أهم خصلة للحاكم، نعم كان يماشي الانجليز، ولكنه كان يريد الخير لشعبه، وانظر اليوم الى الخارطة الدولية واسأل نفسك من يستطيع معارضة أمريكا؟
إذا تحدثنا عن أهم أحداث تلك الفترة، فاعتقد أن حادثة ضم الضفة الغربية كانت أهم الأحداث، ويومها كان سفير أمريكا هو جيرالد دروو وسألته متى ستعترفون بضم الضفة الغربية؟ فأجاب بلهجة دبلوماسي رصين قائلا: نحن دائما نتريث ولا نستعجل اصدار القرارات السريعة، نحن نتبع سياسة التؤدة ولكنني بادرته في الحال فقلت، هل تستطيع أن تخبرني كم أخذتم من الوقت للاعتراف باسرائيل على هذا الأساس؟ وبالطبع رد ضاحكا وقال لقد غلبتني في هذا، لأنه لم تأخذ أمريكا سوى ثلاث دقائق للاعتراف باسرائيل.
غير أنه كان شخصا ظريفا، ويمتاز بشوارب كبيرة، تشبه شوارب الشركس، الذين كان يستخدمهم الملك عبدالله كحرس شخصي له.
واذكر حين جاء هذا السفير ليقدم أوراق اعتماده للملك عبدالله الذي استقبله بسرور كبير نظرا لما يعنيه ذلك من اعتراف أمريكا به وبالأردن، ولذا كان الملك لطيفا معه وسأله إذا كان مرتاحا في عمله ووجوده في الأردن ولكن السفير فاجأ الملك إذ قال: أنا مرتاح بشكل عام لكنني انزعجت جدا هذا الصباح عندما دخلت القصر، وأبدى الملك استغرابه لما حصل وسبب ذلك الانزعاج، لكن السفير واصل حديثه قائلا: عندما دخلت القصر وجدت لدى أحد حراسك شاربا هو أكبر مما لدي من شوارب؟ وضحك الملك كثيرا لتلك البداية.
* ولكن كيف تقيم الضم حينها، أعني ضم الضفة الغربية؟
برأيي كان هدف الملك عبدالله هو الحفاظ على الأرض والفلسطينيين وبالطبع عارض ذلك البعض ولكن اعتقد كانت عملية صحيحة، وكانت أفضل من أن تذهب الى اسرائيل، وفي ذلك الوقت عين الملك عددا من الوزراء الفلسطينيين وكالعادة اعتبر البعض ذلك تمييعا للقضية الفلسطينية.
القاهرة هدف الأديب نجدة
اذا كانت رغبة نجدة فتحي صفوة الأولى من وراء الانخراط في العمل الدبلوماسي من أجل السفر والتعرف على مناحي الحياة الثقافية والأدبية والسياسية فقد كانت القاهرة له ولكل جيله في ذلك الوقت هي الهدف الأكبر، إذ أنها كانت تزخر بحركة الأدب والصحافة وبروز عدد كبير من الرواد في حركة التأليف والابداع، ولهذا نجد الفرصة تسعى نحو نجدة، فيما كان يبحث عن تلك الفرصة، حينما التقطت عيناه يوما وهو في عمان يطالع صحف الصباح، خبر تعيين السفير نجيب الراوي سفيرا للعراق في القاهرة، وكان قد عمل معه أثناء عملهما في المحاماة، والراوي كان نقيبا للمحامين في العراق وعين وزيرا عدة مرات، وفي عمله كسفير كان شخصا فوق المعتاد، بحضوره القوي وشخصيته المميزة, ولذا فقد كان مثيرا أن يحدثنا الأستاذ نجدة عن ظروف ذهابه الى القاهرة للعمل هناك فقال:
في الوقت الذي قرأت خبر تعيين السفير نجيب الراوي في القاهرة، خطرت لي فكرة العمل هناك الى جوار الأستاذ نجيب الراوي، وكان لنا صديق مشترك هو الصحفي الشهير روفائيل بطي فكتبت له رسالة عرضت له فيها رغبتي بالانتقال للعمل مع السفير الراوي، وكنت أهم بارسالها لكن البريد جاء في تلك اللحظة من بغداد، وكانت فيه رسالة من والدي يخبرني فيها بأن الأستاذ روفائيل بطي أخبرني أن الأستاذ الراوي طلب منه ان ينقل اليك رغبته في أن يسألك ان كنت ترغب للمجيء الى القاهرة للعمل معه هناك؟
وتخيل فرحتي ودهشتي بهذه المصادفة الجميلة.
يمضي الأستاذ نجدة متحدثا عن ظروف وصوله للقاهرة والآمال التي كان يعقدها على العمل هناك فيقول:
منذ لحظة وصولي، كان نجيب الراوي يعد لي مفاجأة صحفية وأدبية ثمينة، وكان هو على علم ومعرفة بميولي الأدبية وكان قد أعد دعوة عشاء لمجموعة من أشهر صحفيي مصر وأدبائها، كان هناك أميل وشكري زيدان من دار الهلال ومصطفى وعلي أمين من أخبار اليوم واحسان عبدالقدوس من روز اليوسف وبالطبع كان معهم زوجاتهم، رغم أنني كنت الأعزب الوحيد.
وتختلف ميول هؤلاء سياسيا وفكريا ولذلك علق مصطفى أمين حينها قائلا:ان مائدة نجيب الراوي هي المائدة الوحيدة التي تجمع هؤلاء على اختلاف مشاربهم وآرائهم .
* وكيف وجدت العمل مع السفير نجيب الراوي، وأنت لا تخفي اعجابك به؟
كانت فترة وجودي هناك أثناء حكم الملك فاروق عام 1950 وكانت الفترة غنية بالعمل، وزادها عملا كون السفير الراوي ذاته رجلا نشيطا، وجديا، وكنا نعمل حتى خارج ساعات الدوام، وكان العمل كثيرا حقا ولذلك لم تتح لي الفرصة بلقاءات أدبية.
* ولكن الم تكن هناك فرصة ما، لكي تزوغ عن العمل مثلا؟
لم تكن هناك فرص بمثل ما كنت أحلم به، ولذلك لم تتوفر لي فرص للاستفادة من ذلك الوسط الأدبي الرائع ولكن رأيت العقاد مرتين، وتعرفت على المازني، وحضرت جلسات بسيطة مع توفيق الحكيم، وكان هناك العديد من المراسلين الصحفيين يتردد على السفارة من بينهم جميل عارف، وأحمد نافع، وسامي حكيم مراسل الأهرام كذلك تعرفت على الزيات وكنت مولعا بقراءة مجلة الرسالة وكانت أشهر مجلة ادبية وهو يديرها بالطبع.
* لابد ان الثقل السياسي كان أكثر وقعا على طبيعة عملك منه من على رغبتك الأدبية؟
هذا صحيح، لأن الفترة كانت فترة مفاوضات بخصوص الجلاء بين الحكومة المصرية والبريطانيين، وكان السياسيون من الطرفين يأتون للسفارة العراقية للاتصال بالسفير نجيب الراوي الذي لعب دورا في مفاوضات الجلاء وكنت أرى وزراء الخارجية يترددون عليه كثيراً لمكانته العالية وشخصيته التي كان يعتز بها الكثير من المثقفين والسياسيين الذين يحضرون مجلسه كتب عنه ناصر الدين النشاشيبي قائلا: كنت أتمنى ان هذا السفير سفير لي وليس لنوري السعيد , وبالرغم من ان الراوي لم يكن على وفاق مع نوري السعيد، ولكنه كان يمثل بلده، خير تمثيل، ولذلك فقد كان العمل الدبلوماسي معه له وقع خاص، واثارة من نوع فريد، وطغت مباحثات الجلاء على تلك الفترة استمرت حتى بعد قيام ثورة يوليو 1953.
* في الحديث عن ثورة يوليو، وقد كنت حينها هناك، هل كانت هناك مؤشرات قبيل قيامها؟
لم تكن هناك مؤشرات عملية أو حركية واضحة، لكن كانت أصوات حرة تكتب مستفيدة من حرية النشر والصحافة التي كانت تميز تلك الفترة وبشكل لا يماثله أي واقع باستثناء واقع حرية الصحافة في لبنان.
وكان الناس يتمتعون بحرية شخصية سواء في السفر، أو الملكية الخاصة للناس الميسورين بالطبع، وبالمقابل كان هناك فقر ومعاناة لدى الفئات الفقيرة.
* ولكن ماذا حدث يوم الثورة وبالتحديد أين كنت حينها؟ وكدبلوماسي كيف تابعت الحدث؟
كنت أتمشى مع أحد الأصدقاء، وشاهدنا حريقا، وهو ما عرف بعدئذ بحريق القاهرة بعد ذلك عدنا للسفارة، وعرفنا بأن مجموعة من الضباط ذهبت للملك فاروق وطالبته بالتنازل في وقت أذاع فيه الرئيس محمد نجيب بيان الثورة الأول.
وبودي الاشارة هنا الى الأسلوب الحضاري الذي عامل به الضباط الملك وهم يطالبونه بالتنازل عن عرشه، فهم لم يهينوه ولبوا كل طلباته بالسفر مع أسرته لا بل طلب حضور السفير الأمريكي لوداعه كنوع من التطمين على حياته لأن كان قلقا بالطبع وبالفعل لبي له طلبه حيث حضر السفير مستر كافري وأجري له توديع ملكي محترم,, ولكن لم يحدث له كما حدث في العراق بعد ذلك مثلا!.
* وماذا عن شخصية الرئيس محمد نجيب؟
كان الرئيس محمد نجيب على مودة مع العراق الملكي، وقد تقرب للملك فيصل الثاني الذي قام بزيارة مصر، وحضر الرئيس محمد نجيب السفارة لتحيته، وكان بين البلدين مواقف متشابهة، فقد كان العراق يدافع عن سورية ولبنان وهو أمر كانت مصر الجمهورية تؤيده,, ولم تؤثر نوعية وشكل الحكم على العلاقة بين البلدين.
* ولكن كان هناك عداء في وقت لاحق بين البلدين والحكمين؟
جاء الاختلاف عند توقيع العراق على ما سمي بحلف بغداد وهي تسمية خاطئة اذ انه كان ميثاق بغداد وقد لعب حينها اذاعي شيئ هو أحمد سعيد دورا في توسيع شقة الخلاف بين بلدين شقيقين وتسميم أجواء التقارب.
* تعني فترة حكم عبدالناصر؟
حتى في بداية فترة حكم عبدالناصر، كان هناك حوار وزيارات، وخلال مفاوضات ميثاق بغداد بعث عبدالناصر وزير الاعلام وقتها صلاح سالم لحضور مؤتمر سرسنك حيث كانت العائلة المالكة تقضي عطلة صيفية، لكن المفاوضات والمداولات كانت جارية بهدف ذلك الحلف الذي كان في الواقع حلفا بهدف تشكيل جبهة ضد الشيوعية لكن مصر فسرت ذلك بأنه تحالف مع الغرب لأنه كان مقررا أن تدخل بريطانيا بعد تركيا وايران والباكستان، وحاول عبدالناصر ثني العراق من الدخول في ذلك الحلف، وحين عاد صلاح سالم من ذلك المؤتمر ويبدو انه كان مقتنعا من توجه بغداد للتوقيع، لم يرتح عبدالناصر لموقفه وأزاحه من وزارة الاعلام على ما اعتقد.
* وهل من ذكريات في فترة عبدالناصر ,, ؟
لم تكن الفترة المتبقية لي في مصر كبيرة، وحتى اثناء مفاوضات مصيف سرسنك كنت موظفا في الوزارة، وقد تركت بعد ذلك العمل.
نستكمل ااحوار الأسبوع القادم
|
|
|
|
|