| شرفات
في خريف 1909م نالت سلمى لاجرلوف جائزة نوبل في الآداب ، فكانت أول من ينال الجائزة من السويد ، وفي الاحتفال الكبير الذي حضره ملك السويد قالوا عنها : أنها ابنه السويد النبيلة التي يجب أن تعتبر مؤلفاتها خيرا عاما للانسانية كلها ثم نهضت بوقار خمسين عاما تتسلم الشهادة والميدالية الذهبية وشيكا بمبلغ 1,390,799 كورونا ثم عادت الى مقعدها وسط هتاف الحاضرين شاحبة بلون الفل .
تكاد أن تخفي وراء وقار حركتها ودفء صوتها العميق، مآسيها الذاتية وحزنها الدفين, لقد عاشت حياتها تعتصر الحزن بداخلها قطرة قطرة وتروض نفسها على الصبر والقناعة، وشعارها الدائم: لم أجد أصعب على المرء من القناعة والرضا، ولا أقوى على النصر من الصبر فتحت سلمى عينيها على حادث مفجع آلمها، كما آلم أبويها وجدتها حين رأوا بنيتها الضعيفة، ونموها البطيء، حيث كانت تزحف بدلا من أن تمشي، ولذلك عندما فحصوها اكتشفوا أن رجلها اليسرى أقصر من اليمنى بكثير، ولذلك عندما كانت تمشي كانت تتعلق بعنق مربيتها بينما اخوتها يركضون حولها، وهي تنظر اليهم بأسى ودهشة، مما كان يتفطر له قلب الأم والأب وهما ينظران الى الطفلة البائسة التي لاتدرك بعد عواقب الشلل الأليم.
كانت سلمى مدار عطف أهل البيت، تقضي الأماسي في وداعة تستمع الى حكايات جدتها الرائعة، حيث تتحول الحياة الى أساطير,, الى تفسيرات غامضة غريبة,, فعواء الكلب في الليالي المظلمة له تفسير خاص عند جدتها,, هذه الحكايات فتحت في اعماقها بابا للخيال والمرح والعوالم السحرية، ومن خلال الحكي تعلمت سلمى أن تنسى عاهتها وواقعها المرير وتعيش في عالم من نسيج خيالها، عالم لا تشعر فيه بالعجز أو النقص.
وذات يوم أخذها أبوها الى الحمامات المعدنية ، وهنالك حلت المعجزة ونسيت الطفلة عجزها واطلقت رجليها للركض، لكنها بقيت تعاني ألم العرج والضعف في رجلها، وأن كان حنو أبيها خفف عنها الكثير، وعوضها بحبه الجارف عما تعانيه، وكانت الطفلة الحالمة معجبة بصفات أبيها ضابط الجيش السابق، والمتواضع المرح، والذي جعل من مزرعتة الصغيرة (مورباكا) مكانا للاهل والاصدقاء والضيوف, لقد حاول هذا الأب أن يجعل سلمى طبيعية كأختها الكبرى آنا، ولكنه في بعض الأحيان ورغم حبه لها لم يكن يفهمها، واستاءت منه سلمى حين ارغمها على حضور حفلة راقصة بجوار مورباكا ومع اختها آنا, توسلت اليه باكية ألايرغمها على الذهاب ولكنه تشبث برأيه وصحبها منتفخة الأوداج من فرط البكاء, وفي الحفلة توجهت الأنظار نحو آنا الجميلة ولم ينتبه أحد لوجودها، فظلت طوال الليل في زاوية منفردة بحزنها.
تأكد لها أنها شابة عاجزة,, ناقصة,, ليست مثل سائر البنات,, ولاشىء يؤنس وحشتها سوى أحاديث الجدة، وأحيانا الهروب في دنيا الخيال أو التجوال في المزرعة الهادئة حيث روائح القمح والقش والخيول، وحيث أشجار الصفصاف تظلل الطرقات, لقد قررت بينها وبين نفسها ألا تتزوج أبدا، وأن تعيش في عالم الطفولة السحري ولا تخرج منه أبدا.
ومن جانبه حاول أبوها أن يخفف عنها قدر مايستطيع فأرسلها للعلاج في استوكهولم ثم للدراسة في دار المعلمات، وبعدما أنهت دراستها عملت بالتدريس في مدينة ساحلية صغيرة تسمى لاند سكرونا ورغم نجاحها واعجاب الآخرين بشخصيتها العميقة ولمعة النجابة في عينيها الا انها لم تمنح أحدا قلبها النابض بالحزن، ورغم إعجابها بطبيب البلدة الذي تحدثت معه بطلاقة عن أفكارها ومشاريعها ووصفته بأنه أول رجل يقدرها شخصيا بصرف النظر عن موهبتها الأدبية ,, برغم كل هذا لم تتحول تلك العاطفة الى حب أو زواج لان احساسها المتضخم بعاهتها جعلها تنذر نفسها للأدب والكتابة ,, فأصدقاؤها المقربون هم سرفانتس وهوميروس ووالترسكوت ,, واغلب المسرحيات والقصص والتي تكتبها للأطفال تدور كلها عن أمير الأحلام الذي تبحث عنه كي يحبها!!
وكانت الصدمة الأخرى التي هزت مشاعرها وفجرت ينابيع الحزن والأسى هي مورباكا,, لقد ضاعت المزرعة الجميلة فجأة، ومات الأب ثم ماتت الجدة، وتراكمت الديون على الأسرة العريقة,, وفي آخر صيف قضته سلمى في بيت الطفولة أحست أن مورباكا في طريق الضياع فكتبت تقول: إن ممتلكات اجدادى تبدو وكأنها أرض يابسة,, وقد أشتممت منها رائحة الرحيل النهائي, هكذا بيعت مورباكا وخرجت لأول مرة منذ تأسيسها من أيدي أسرة لاجرلوف.
ولم يكن أمام سلمى سوى أن تستعيد حكايات جدتها، حكايات السويد القديمة واساطيرها,, لقد شعرت أنها درست بما فيه الكفاية وعليها الآن أن تواصل الكتابة وأن تبدع شيئا ذا أهمية كبرى، وحدث في سنة 1890 أن فازت بجائزة عن احدى القصص، وكان فرحها عميقا لأن اللجنه الفاحصة كانت مؤلفة من رجال فقط، وقد علقوا على أسلوبها قائلين: أن مزايا الآنسة لاجرلوف الأدبية تخرج عن نطاق المألوف من الانتاج الأدبي المعاصر ويتفوق انتاجها على الكثير مما تمخضت عنه أفكار وأقلام الكتاب في السويد منذ زمن بعيد), هذه الشهادة جعلت سلمى تعيش قلقا مستمرا كلما أمسكت القلم كي تكتب، وكثيرا ما كانت تعتذر عن نشر المقالات حتى لا تؤلف موضوعا ضعيفاً، وارتبكت أكثر عندما لم يحظ كتابها الاول بالتقدير الكافي في السويد، فعاشت عامين وكأن موهبتها الخلاقة قد أصيبت بالشلل فجأة!! ولولا دعوة كريمة تلقتها من احدى الجمعيات الدنماركية ، ولولا الحفاوة البالغة التي استقبلت بها في الدنمارك لماتت سلمى أدبيا وهي في منتصف الطريق.
انتصرت سلمى في الدنمارك ثم عادت لتنتصر في وطنها السويد ثم في سائر اوروبا وعرفت لأول مرة ومنذ فترة بعيدة شيئا من اليسر المادى اتاح لها السفر الى ايطاليا ومصر والقدس,, وشيئا فشيئا عادت الى أساطيرها القديمة عن السويد,, عادت الى حكايات الجدة,, ورائحة المزرعة واشجار الصفصاف,, وعزمت على تأليف عمل أسطورى ضخم للأطفال، تعلمهم من خلاله المبادئ والقيم، وتاريخ الوطن وموقع البلاد، وكان مبدؤها في تلك الفترة: إن من يعرف كيف يكبح جماح شهواته، ومن يقاوم الإغراء والغرور هو وحده من يستطيع الاستفادة من مواهبه.
ورأت سلمى نتيجة إخلاصها وحماسها لقد طبع من كتابها نصف مليون نسخة، وجاءتها آلاف البرقيات من الآباء والأمهات يشكرونها على كتابها الرائع, وأطلق اسمها على احدى البواخر الجديدة كما منحت الدكتوراه الفخرية من جامعة أوبسال,, ورغم شحوبها وتواضعها فإنها لم تنس ابدا مورباكا وبمجرد أن تحسنت أوضاعها المالية حتى استعادت مورباكا مرة أخرى بعد غياب عشرين سنة، وكأنها تسترد طفولتها القديمة من جديد، وكأنها تكتمل مرة أخرى لتواصل الابداع الدافق حتى بعد حصولها على جائزة نوبل فكتبت عددا من الاعمال الهامة مثل (المنبوذ) (الخريف) امبراطور البرتغال ),, وفي عيد ميلادها الحادى والثمانين شعرت بدنو أجلها وصرحت في رسالتها الأخيرة أن أخشى ما تخشاه هو انفجار الدماغ الذي حدث لأبيها ولجدها في آخر حياتهما,, ووجهت رسالة في الاذاعة لشعب السويد: احب ان اعتقد بأنكم شعرتم بحاجة للإعراب عن محبتكم لرفيقة قديمة لكم في طريق الحياة، ولاشك في انكم شعرتم بحاجة لوداعى، بينما لم تزل فرصة وجودى معكم سانحه، وأردتم اسعادى باعلامى أن ما حققته في حياتى هو حي وسيبقى حيا الى امد ما بعد مماتي,, ثم عادت الى مزرعتها مورباكا,, وهناك اصيبت بما كانت تخشاه وفاضت روحها,, فنعتها الدوائر الثقافية بحرارة وقال الأديب الفرنسي الكبير جورج دوهاميل يرثيها: ايتها السعيدة سلمى لاجرلوف فليباركك الله.
|
|
|
|
|