| مقـالات
جاءت المراكز الإسلامية في الخارج، وخاصة في مجتمعات الأقليات المسلمة، استجابة لحاجة الأقليات المسلمة لتنظيم برامجها الخاصة بها لاستمرار البناء الفكري لأفرادها كل حسب إمكاناته، سعياً للحفاظ على هويتهم الدينية، وتميزهم في ظل مجتمع إسلامي مصغر, كانت بدايات بسيطة تعتمد على اجتهاد القادرين منهم، ولكن التجربة ازدادت عمقاً، وتوسعت حسب ما اتاحته القوانين والتنظيمات المحلية، وانطلقت بصفتها الرسمية إلى مجالات عمل أرحب وأشمل، فالنجاح يدفع دائماً إلى مزيد من العطاء وتقدم الخطوات, فنشأت مراكز وجمعيات إسلامية كبيرة ذات اساس قانوني، الا أنها ايضاً مرت بمراحل التجربة القانونية والتنظيمية من جوانب: الملكيات اللوائح التنظيمية الداخلية العلاقات الخارجية برامج العمل واستراتيجياته ، واستقرت على نماذج متباينة في كل شئ دون استثناء، واشتركت في عدم استطاعتها على تحقيق اهدافها بالشكل المطلوب، نظراً لاختلاف نماذج التنظيم القانوني، والاداري، وما يعانيه بعضها من السيطرة الفردية، او القومية، او الحزبية، او المذهبية، وهذا وللاسف يكشف جانباً من جوانب اوجه عجز الأمة الاسلامية المعاصرة عن لمّ الشمل واجتماع الكلمة سواء أكان على مستوى الجماعات في اشكالها المختلفة، ام على مستوى الافراد، حيث تظهر في كلتا الحالتين الاجتهادات الفردية والمصالح الشخصية، وهذا الحكم ليس يطلق على عواهنه، ولا يلغي جهود الصلحاء من الامة ولا اجتهادات الموفقين, ولكن في الوقت ذاته يؤكد على ضرورة اعادة النظر والسعي لاصلاح الواقع، والإسهام في تنظيم مستقبل هذه المراكز بالنظر لاهميتها، وضرورة دعمها ومساندتها، واعتبارها امتداداً طبيعياً وعمقاً استراتيجياً للدعوة الإسلامية في مجتمعات الاقليات الاسلامية في العالم.
وندرك من جانب آخر ان اعادة تنظيم هذه المراكز غير مقدور عليه بصورة مطلقة، لأن معظمها استقرت على وضعيات معينة يصعب فيها التغيير المباشر ان لم تتجرد من الاهواء والنزعات الفردية, ولكن اصبح اليوم لزاماً على المخلصين لهذا الدين ان يسعوا الى شيء من التنظيم ولو قلّ، لأن مالا يدرك كله لا يترك جله، ولأن العالم سائر في الالتحام بتكتلات قائمة على أسس متنوعة، فكيف يظل المسلمون وحدهم خارج التنظيم.
* دواعي اعادة التنظيم:
بالنظر في تاريخ المراكز الإسلامية وبداياتها المبكرة يظهر أن كلاً منها جاء تلبية لحاجة المجتمع وفق ظروف كل مجتمع على حدة، ونشأت في ظل ظروف قانونية متباينة، وهذا أثّر في الأشكال القانونية لكل منها، وطبيعة اعمالها التي تؤديها، والطريقة التي تدار بها، ورافق ذلك العواطف الجياشة من المسلمين، ومن عامة المحسنين في العالم الإسلامي الذين تدافعوا للدعم والمساندة والاعتزاز بذلك على وجه الخصوص.
ولكن الزمن وما حمله من تطورات متباينة في كل الاتجاهات الثقافية والاجتماعية والدينية، وعموم المعرفة احدث هزة في الواقع الهش لكثير من تلك المراكز او بالأصح التجمعات ، وابان ان واقع عمل هذه المراكز الحالية قد يكون دون مبالغة احد المعوقات الرئيسة امام تطور العمل الإسلامي، لما يحيط بها من مشكلات واقعية تتصل بتنوع جمهور هذه المراكز وعجزها عن مواجهة متطلباتهم، نظراً لفقدانها مقومات ذلك، فهي تتعامل مع العلماء، والمثقفين، والمتخصصين، والعمال، وابناء هذه الجاليات الذين نشأوا في ظل هذه المجتمعات، والمسلمين المحليين على اختلافهم، وما ينتج عن ذلك من اختلافات كبيرة في البناء الثقافي، والتكوين الاجتماعي، إضافة الى معيشة معظم هذه المراكز تحت ضغط شح الموارد المالية، وعصبية الانتماءات العرقية، وحلبة النزاعات السياسية.
وفي ظل هذا الواقع المتراكم يدفع للنظر في اعادة التنظيم، جملة من الدواعي، منها:
1, العدد الكبير للمراكز الإسلامية المنتشرة في دول العالم، وخاصة مجتمعات الأقليات المسلمة، والآثار الإيجابية التي تحققها، رغم ما يكتنفها من سلبيات، وما يرجى أن تحققه.
2, النظر إلى المراكز الإسلامية بأنها امتداد طبعي قانوني استراتيجي للتعريف بالإسلام واعطاء الصورة الحقيقية عن المسلمين.
3, الانفاق المالي الضخم على مستوى الدول والشعوب الذي اسهم في ايجاد تلك المراكز، اضافة الى ان العطاءات لا تزال تتواصل رغم عشوائية التنظيم، وضبابية الاهداف.
4, تواصل الحاجة الى انشاء المزيد من المراكز وخاصة في المجتمعات المتحررة من ربقة الشيوعية، ومزيد الحاجة بوجه عام نظراً لتوسع المجتمعات وتباعدها.
5, ظهور آثار سلبية كبيرة في اداء بعض المراكز مما يخرجها عن اهدافها الحقيقية، ويؤثر سلباً على مسيرة بقية المراكز الاخرى، سواء أكان مما هو في منطقتها ام بعيداً عنها.
6, غياب المرجعية التي يمكن الاستناد اليها في تقويم اداء تلك المراكز وتطويره، او التي يمكن ان تسهم بفاعلية في اعادة البناء، او التطوير، حيث لا تزال الاتحادات، والمجالس، والمنظمات الإسلامية الاقليمية والدولية غائبة عملياً عن اداء واجبها في هذا الميدان.
* ملامح اعادة التنظيم:
سبقت الاشارة الى ان اعادة تنظيم هذه المراكز قد يكون غير مقدور عليه بصورة كاملة لاعتبارات عديدة لعل منها:
1, الاوضاع القانونية لبعض المراكز التي استقرت على أشكال محددة فرضتها أنظمة الدول التي نشأت فيها، وربما لا تقبل التغيير.
2, الانتماءات سواء القومية، ام العرقية، ام السياسية، ام المذهبية، ام الفكرية التي تكون معوقاً اساسياً امام التعاون مع الآخرين لتطوير العمل وتنظيمه.
3, ان السعي لاعادة التنظيم قد يدفع لالتزامات ادبية او مالية امام الراغب في اعادة التنظيم تجاه هذه المراكز، وقد تكون هذه الالتزامات غير مقدور عليها بتمامها.
لذا فان هناك عدة اوجه ومحاور تشكل ملامح لاعادة تنظيم المراكز الاسلامية، وكل منها مهم بذاته، الا انها تتكامل في اداء ادوارها في تحقيق ذلك، ويمكن هنا عرض الآتي:
اولاً: إعادة صياغة دور رابطة العالم الاسلامي تجاه هذه المراكز، سواء المراكز التي تتولى الرابطة الاشراف عليها كلياً الملكية التمويل التشغيل ، ام المراكز التي تسهم الرابطة فيها بدعم سنوي عام، او بتحمل بعض جوانبها التشغيلية، او حتى عامة المراكز الاسلامية من باب رسالة الرابطة ووظيفتها وطبيعة عملها تجاه عامة المسلمين.
وهذا يحتاج الى دراسة متأنية تراعي كل الاعتبارات المتصلة بواقع المراكز، وشؤون مجتمعاتها، وخلفياتها السابقة.
ثانياً: النظر في اوجه تطوير المجالس الاسلامية القائمة الآن في مناطق مختلفة من العالم، وان يسن لذلك تنظيماته سواء أكانت من جانب تأسيس الجديد منها، ام اعادة تنظيم القائمة الآن، وان يكون لرابطة العالم الاسلامي دور الريادة في هذا الاتجاه، بأن تساند مالياً ومعنوياً لتحقيق ذلك، ودعم طبيعتها العالمية ومكانتها الدولية في هذا الاتجاه على أن يكون توزيع هذه المجالس قارياً وفق التصنيف القاري السياسي، وأن يكون لهذه المجالس أمانة مساعدة كجزء تخصصي من عمل الرابطة, والمجالس بدورها تعتني بتنظيم المراكز الإسلامية في نطاقها الجغرافي، وترسم ملامح التعاون والتنسيق فيما بينها، وأن يكون لذلك آلياته وتنظيماته المقررة.
وهذا ولا شك سيضفي عليها مزيداً من المكانة السياسية والقوة في التأثير والتوجيه بما يعين على تحقيق الاهداف المرجوة.
ثالثاً: العمل على صياغة نظام تأسيسي نموذجي يسعى لتعميمه على المراكز القائمة الآن سعياً لتكييف اوضاعها بمقتضاه، وان يكون معتمداً للمراكز الجديدة التي يُزمَع انشاؤها، بحيث تستند على اساس نظام مجلس الامناء الاوصياء سواء من جانب الملكيات او الادارة، ورسم السياسات وخطط البرامج، بما يحفظ لمستقبل المراكز الاسلامية الاهداف والوظائف، ويبعد عنها نزعات الفردية والانتماءات الضيقة.
رابعاً: على مستوى المملكة العربية السعودية وبالنظر الى وجود المجلس الاعلى للشؤون الاسلامية الذي يعنى برسم سياسة الدولة وبرامجها في مجالات الشؤون الاسلامية بعامة والاقليات المسلمة بخاصة، فلعل من المناسب العمل على ايجاد امانة مساعدة ترتبط بالامانة العامة للمجلس تختص بشؤون المراكز، والتنسيق في ذلك مع الرابطة والمجالس، وتعمل على المتابعة والتقويم، ودراسة اوجه التطوير المستقبلية.
هذه ابرز الملامح الرئيسية الهامة في اعادة تنظيم المراكز الاسلامية سواء فيما يتصل بها بذاتها، او فيما يتعلق بالجهات ذات العلاقة بها التي تعد من اهم روافدها.
ومن المفيد جداً ان نتجاوز بمحاولات التنظيم الاطر النظرية القانونية والتنظيمية ، لنتناول بجهودنا العمل على تطوير برامج العمل وخطط وسياسات ومنهاج الدعوة والتعليم، ووضع الحد النهائي امام مشكلات التمويل والدعم المالي.
كما انه من المفيد ايضاً الفصل في النظر بين المراكز الاسلامية ذات الطابع الثقافي والدعوي، وبين التجمعات او الجمعيات الاسلامية العامة التي هي اكثر من ان تحصى، والتي في غالبها تنزع الى التخصص الدقيق والمفيد في مجالات المرأة او الطفل او الشباب، او فيما يتعلق بالجوانب الوظيفية كرعاية المعوقين او المسنين، وغير ذلك من المجالات الوظيفية، والفصل هنا لا يعني الاهمال، بل يرافق ذلك دراسة اوجه التعاون وسبل تنظيمها دون الخلط بين هذين الاتجاهين، وان كان الفصل الدقيق بينها متعذراً الى حد ما، كما هو الحال في محاولات الفصل الوظيفي بين المجالس والاتحادات الاسلامية.
* قبل الختام:
ان الملتقى الثقافي الذي عقد في العاصمة المجرية بودابست تحت عنوان: الجمعيات والمراكز الاسلامية في اوروبا: نظمها، وأهدافها، وآثارها قد اتاح فرصة علمية عظيمة للوقوف على واقع هذه المراكز وفق محاور عمل وابحاث الملتقى، ولا شك في ان ما خرج به من توصيات، وانتهى اليه من نتائج يعد رافداً هاماً في مسيرة المراجعة واعادة تنظيم هذه المراكز.
ولكن المحطة الاهم هي ايجاد الآلية العملية التنفيذية لتحقيق ذلك، ونقل الجهود العلمية والخبرات المشاركة التي ظهرت في جلسات الملتقى الى ملموسات عملية تظهر آثارها في الساحة.
فينبغي الا نقف عند حد التعرف على المشكلات، وان كان هذا مهماً بحد ذاته، ولكن يجدر بنا ان ننتهي الى ما ينتهي اليه الفقهاء عادة بعد تحريرهم لمسألة البحث والدراسة، والا تكون خطوتنا الاخيرة هي افراغ الهم الذي بداخلنا تجاه القضية، ثم نتوقف، بل تعد هذه هي الخطوة الاولى لنا، وتليها الخطوات العملية المفضية الى النتائج.
والله الموفق
استاذ السياسات الإعلامية المساعد
|
|
|
|
|