أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Wednesday 27th September,2000العدد:10226الطبعةالاولـيالاربعاء 29 ,جمادى الثانية 1421

عزيزتـي الجزيرة

حمى الوادي المتصدع بين الأبدان والقلوب
الأخذ بالأسباب ونشر الوعي الصحي ضرورة لتحجيم الوباء
تسامع الناس بأخبار المرض الفيروسي حمى الوادي المتصدع وما نال بعض من أصيبوا به، واستنفار الحكومة لهذا المرض ومناقشة مجلس الوزراء لهذه القضية في جلسة الاثنين 20/6/1421ه بغية دفع أذاه عن الناس، نسأل الله لمن توفي المغفرة والرحمة وأن يجعل ما أصابهم كفارة لذنوبهم، وأن يشفي المرضى، وأن يعافينا وإخواننا المسلمين منه ومن كل بلاء ومرض.
ومن الجدير أن يلاحظ في هذا المقام: أمر مهم جداً جاءت الشريعة بالعناية به في مثل تلكم الظروف، وذلك فيما ينبغي من رسوخ التوكل على الله تعالى وتفويض الأمر إليه في خضم السعي لبذل الأسباب، وما ينبغي من استقرار اليقين الجازم في القلوب بأن العبد لا يصيبه إلا ماكتب الله له، فلا يستسلم لنزغات الشيطان ووساوسه وأراجيفه, وبيان هذه المسألة في النقاط التالية:
أولاً: ثبت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه قال:لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر, رواه البخاري مسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه .
قال أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: لا عدوى : المراد بنفي العدوى هو النفي المطلق أن يكون ثمة شيء يعدي بطبعه، وفي هذا إلغاء لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك بهذا الوحي، وأكل مع المجذوم ليبين للناس أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو من المجذوم كما في حديث آخر ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل بذاتها، بل الله سبحانه هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئاً، وإن شاء أبقاها فأثرت, نبه لهذا المعنى الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في بحث طويل ومفيد في هذه المسألة في كتابه فتح الباري .
ثانياً: روى البخاري ومسلم عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم بهيعني الطاعون بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه .
ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله الحكم فيما ينبغي على الناس في مرض الطاعون وما شابهه من الأوبئة، وأن المشروع لمن كان داخل البلد ونطاق البقعة أن لا يخرج من مكانه ذلك، لما في الخروج من المفاسد العديدة التي أوضحها أهل العلم، ومنها أن هذا الصنيع قد يؤدي إلى اتساع نطاق الوباء، ولهذا قال أهل العلم: إن المرض ليس مختصاً بالبقعة، ولكنه متعلق بالأشخاص، فالخروج لا يغني عن المرء شيئاً بل إنه يفاقم الحالة، وأما من كان خارج النطاق فإنه ممنوع من القدوم على المكان الموبوء لأنه قد يصاب فيداخله حينئذ التسخط والتحسر التمني وقوله: لو أنه لم يأت ماكان له ذلك، ولما جاء من النهي عن أن يلقي المرء بنفسه إلى التهلكة.
وفي ضوء ما تقدم إيراده: يُعلم أن السلطات الصحية ينبغي أن تبذل كل ما في وسعها، من جهة الحجر الصحي الذي دل عليه الحديث المذكور، مع ضرورة إعطاء اللقاحات أو القضاء على مسببات مرض حمى الوادي المتصدع لأن ذلك من جملة الأسباب التي أمر بها العبد لمدافعة المرض، وكذلك نشر الوعي الصحي المكثف ببيان مسببات المرض وكيفية تجنبه وأهم أعراضه لمداواته، وفي الحين نفسه ينبغي أن يقوي عند الناس جانب التوكل وتفويض الأمر لله تعالى، فيقترن الأمران ببعضهما، قال الله تعالى: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون سورة التوبة: 51، والمعنى أننا والخلق جميعاً تحت مشيئة الله وقدره وهو سبحانه مولانا أي: ملجؤنا ومتولي تصريف أمورنا، فعلينا الرضا بأقداره وتفويض الأمور إليه.
ومما يحسن إيراده هنا لمزيد الفائدة ما وقع في شهر ربيع الآخر سنة 18 للهجرة من انتشار وباء الطاعون في الشام وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه متوجهاً إلى هناك، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم، قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله ؟! فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! نعم: نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرايت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان، إحداهما: خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله !! قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف، وكان متغيباً في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا عملاً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه قال: فحمد الله عمر ثم انصرف, وهذه الواقعة مخرجة في الصحيحين وغيرهما.
وفي هذه القصة يتبين كيفية إعطاء كل مقام حقه، فالتوكل له مقامه الذي لا ينبغي لمسلم أن يفرط فيه، وبذل الأسباب لها مقامها الذي لا يليق بعاقل أن يدعها، فالمسلم توكله إنما هو على الله تعالى وحده، وأما الأسباب فإنه يأخذ بها باعتبارها أموراً هيأها الله وأمر بمعالجتها فقد تنفع وقد لا تنفع، قال أهل العلم: ترك الأسباب قدح في العقل، والاعتماد عليها نقص في التوكل ونوع من الشرك.
وفي ضوء ما تقدم يتبين ما ينبغي اعتقاده في هذه القضية وما شاكلها، وذلك بإخلاص التوكل على الله وحده، وعدم التفات القلب لشيء من المخلوقات، وأما تعاطي العبد للأسباب فلأن الله أمر بذلك وقد تنفع أو لا تنفع، قال الله تعالى واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون سورة المائدة:11 فأمر بحصر التوكل عليه سبحانه، وأمر بالتقوى ومنها القيام بالأسباب المأمور بها.
ولأهمية هذه المسألة ومسيس الحاجة إليها في كل وقت وفي هذه الأيام خصوصاً فقد حررت ما تقدم في ضوء ما فصله أهل العلم، والله خير حافظاً وهو على كل شيء وكيل، فنسأله العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
خالد بن عبدالرحمن الشايع

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved