| الثقافية
كنا طلابا في جامعة دمشق أيام الطلب، وكان اسم حمد الجاسر يتردد في محاضرات أساتذتنا مرتبطا بالمعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية الذي كان يوزّع على أهل العلم بالمجان, وكان أستاذنا الدكتور شاكر الفحام كثير الذكر له، والثناء على علمه، وخلقه العلمي، خصوصا في ذلك الفن الجليل الذي برع فيه، وارتبط باسمه، حتى انك لا تجد كتابا يتناول تراث العرب يخلو من ذكره، انه فن تحديد الأماكن وتصحيحها، ناهيك عن تبحره في علم الأنساب، واطلاعه على المطبوع منه والمخطوط، وعلى ما عرف مؤلفوه أو كانوا مجهولين، وعن اطلاعه على التراث الشعري وأسماء شعرائه، وغير ذلك من علوم العربية التي كانت له فيها اسهامات وتصحيحات أقر له بها أساطين العربية في القرن العشرين.
ان الأدب الجغرافي العربي الذي برع فيه حمد الجاسر، جعل اسمه، كما قلت، على كل شفة ولسان، فاذا أخرج إحسان عباس ديوان كثير عزة، وجدت الشيخ يكتب ملحقا جليلا عن الأماكن في شعره، واذا رأيت عمله عن الهجري بدا لك أنه أحيا موات الكتاب، واذا قارنت ضبطه فيه ودقته بما تجده في طبعة أخرى ظهرت للكتاب في العراق ظهر لك علمه وحرصه على توخي الصواب والبحث عنه في بطون الكتب والمخطوطات، وفي أفواه الرجال ان لزم الأمر.
كان يخص مجلة مجمع اللغة العربية في دمشق بتحقيقات وتعليقات فيها من لطف الصنعة، وجلالة العلم، وتواضع العالم عندما يكون ذلك مناسبا، ما كان يمتع ويفيد، وإني لأذكر أيام عزمت على اخراج ديوان الشاعر المدني العدواني الخارجي محمد بن بشير، وكيف كنت أفزع الى تعليقاته وتحقيقاته عن الأماكن فأجد فيها المعلومة الدقيقة, والضبط الصحيح، أجد كل ذلك، سائغا عذبا بأسلوبه الواضح، وفكره النير, كان يطل علينا في الوطن العربي من خلال الفيصل والمجلة العربية ، والرياض وغيرها من الصحف والمجلات، وكان يحمل على الدوام الى قرائه ومتابيعه الجديد، والممتع، والمفيد.
كنت قبل ان اتشرف بالقدوم الى المملكة أستاذا في جامعة الملك سعود أعرف هذا الجانب التراثي عن الشيخ، وكنت أحاول الوصول الى كل ما يكتبه، على صعوبة ذلك, وأراد الله ان يمتد حبل المودة بيننا بعد ان نشأت على كتاباته وتحقيقاته، وكان السبب في اتصالي بعلامة الجزيرة، على البعد، انني أصدرت في عام 1981م ديوان شاعر عباسي هو محمد بن حازم الباهلي، صدر عن دار قتيبة بدمشق، وقد أشار الشيخ الى ذلك في كتابه: باهلة القبيلة المفترى عليها، طبع دار اليمامة، الرياض، 1410ه 1990م، ص 568: قال: وقد تصدى لجمع شعره أحد الأدباء من بلاد الشام هو الأستاذ محمد خير البقاعي، ونشر ما جمع بعنوان ديوان الباهلي وطبع في دمشق سنة 1401ه 1981م, وهذه مقطوعات من شعره، مما جمعه الأستاذ البقاعي، وقد ذكر مصادرها, ثم أورد نصوصا من شعر محمد بن حازم الباهلي، ص 568 572, ثم شاء الله أن أغادر الى فرنسا في 12/12/1983م لاتمام دراستي العالية، وفي عام 1986م أعدت النظر في الديوان ونشرت مقالة في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني بعنوان: ديوان الباهلي تكملة وإصلاح، استدركت فيها على عملي شعرا كثيرا، وصححت ما فرط مني في الطبعة الأولى, ولما عدت الى فرنسا بعد عطلة صيف 1986م، حمل البريد الي رسالة أرسلها الي الأخ الصديق الدكتور عبدالاله نبهان، وفيها رسالة من الشيخ حمد الجاسر الذي خاطب مجمع اللغة العربية الأردني برسالة أرسلوها الى عنواني في سورية حمص، وأبردها الي في فرنسا ليون الدكتور عبد الإله نبهان, كان في رسالة الشيخ بعض المرارة والشجا، ولكن فرحتي برؤية خطه المميز أنساني ذلك أيام كنت خلالها أعاود قراءة الرسالة، ولما عدت من فرحتي رأيت ان الخلق العلمي يحتم عليّ الرد على الرسالة، فبدأت بكتابة الرد، وملخص ما كتبه الشيخ ان ما ورد في مقدمة ديوان الباهلي ص 9 أشجاه، وهو ما نقلته عن الدكتور جواد علي الذي نقل عن الثعالبي قولهم: وعرفت بأهله باللؤم,,,، ويطلب الشيخ أن أذكر له المصادر القديمة الموثقة التي وردت فيها هذه العبارة وأمثالها لأنه كما قال حينذاك كان بصدد كتابة مؤلف جامع عن هذه القبيلة المفترى عليها, وقد وجدت الشيخ قد ضمن كتابه المذكور ص 721 رسالتي فقال: وما أعظم ما غمرني من السرور حين حادثت أحد الاخوة من بلاد الشام ولعله من تلاميذ الشيخ مشيرا الى هفوة منه في الموضوع وردت في مقدمة ديوان صنعه لأحد شعراء باهلة، اذ نطلق قول الدكتور جواد علي دون تنبيه على خطئه في حق تلك القبيلة الكريمة، فكان فيما كتب به الي من ليون في فرنسا بتاريخ 24 جمادى الآخرة 1409ه 31 كانون الثاني 1989م ,,, فيما يخص العبارة التي أشجتكم وعرفت باهلة باللؤم,, الخ ان العبارة منقولة عن كتاب الثعالبي، نقلها جواد علي في المفصل,, على اني أحب أن أبوح لأستاذنا اني تنبهت متأخرا الى ان ما يذكره الثعالبي والعهدة عليه في ذلك منفي بما ذكره المتقدمون الذين أشرتم اليهم، وكان عليّ أن آتي بأقوالهم، ولعلي فاعل ذلك في طبعة الديوان القادمة ان شاء الله, ولو لم تكن لباهلة من المفاخر الا انها أنجبت قتيبة بن مسلم الباهلي، وعبدالملك بن قريب الأصمعي، لكفاها فخرا، ولغرق اللؤم وهو فرية في بحر فضائلها ,,, , وقد علق الشيخ على الرسالة بقوله: هذا مما ملأ فؤادي غبطة وسرورا من مسارعة الأخ الكريم الأستاذ محمد خير البقاعي للانصياع لقبول الحق، حين اتضح له، دون جمجمة أو تردد، وهذا هو النهج القويم الذي يجب على رائدي الحقيقة سلوكه.
وقد وعدت الشيخ بمراجعة ما كنت ذكرته عن باهلة في ديوان محمد بن حازم الباهلي، وفعلت ذلك عندما أشرفت بالمشاركة على تحقيق الديوان من جديد ودراسة قبيلة باهلة، وذلك في رسالة علمية في الجامعة اللبنانية طرابلس، قام بالدراسة والجمع والتحقيق الأستاذ مناور الطويل وحصل بها على درجة دبلوم الدراسات المعمقة من الجامعة المذكورة 1997م، واعتمد على ما ذكره الشيخ في كتابه اعتمادا كبيرا.
ولما قدمت المملكة في عام 1417ه 1996م، وكنت شديد الحرص على تسقط أخبار الشيخ، واكتشاف جوانب أخرى من شخصيته واهتماماته، فكان أن نشرت في مجلة العرب الغراء مقالة لقيت من الشيخ والمجلة اهتماما وكنت أنوي ان أجعلها سلسلة من المقالات بعنوان: من طرائف التراث، وكان عنوان المقالة: يزيد أم بُريد؟
وشاء الله أن أعمل في موسوعة الملك عبدالعزيز آل سعود، سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية مع نخبة من أساتذة اللغات والتاريخ، ولما أنجزت المجلدات العشرة الأولى كان الدكتور سعد الصويان المشرف على الموسوعة حريصا على اطلاع الشيخ عليها، ولما صارت اليه، واستعرض أسماء العاملين عليها، ووجد ذكرا لكاتب هذه السطور بينهم، طلب الشيخ من الدكتور سعد أن يصطحبني اليه برفقة الدكتور عبدالفتاح ابو علية، وكانت فرحتي برؤية الشيخ عظيمة، فحملت اليه ما أصدرته من كتب، وأهداني بدوره الجزأين الثاني والثالث من رحلاته، ودار بيننا حديث فهمت من خلاله ان الشيخ متتبع أخبار الكتب والكتّاب، وكان مجلسه كالعادة يعج بأهل العلم القادمين من كل حدب وصوب, وعدته بالعودة، وشغلتني شؤون الحياة، ولم نشعر الا والأخبار تعلن دخوله المستشفى، وكنا نرجو أن تكون وعكة عارضة يعود بعدها الشيخ الينا سليما معافى.
لقد عرفت خلال هذه الفترة جانبا من جوانب شخصية الشيخ التي تحتاج غير دارس وغير دراسة للحديث عنها، انه اهتمامه بالرحلات والرحالة الذين جاؤوا الجزيرة العربية؛ فنجده يكتب مقدمة لكتاب جاكلين بيرين: اكتشاف الجزيرة العربية الذي ترجمه عن الفرنسية قدري قلعجي، وهو الكتاب الذي عرف القراء بأولئك الرحالة، ودل على مؤلفاتهم، ثم تجده يصدر كتاب: رحالة غربيون في بلادنا، جمع فيه ما كتبه عن رحلات الغربيين الى الجزيرة العربية.
أشرت الى هذا الجانب لما فيه من دلالة على بصيرة الشيخ، وانفتاحه على صورتنا عند الآخرين لاستيضاح ما عندهم، والرد عليه، ان كان في كتبهم ما يمس عقيدة الأمة وتاريخها.
كانت مقالات الشيخ في صحيفة الرياض كنز معلومات، يراجع فيه أحدث الاصدارات؛ وما زلت أذكر مراجعاته القيمة للنشرة الجديدة من رحلة ابن بطوطة، ومراجعة موسوعة الملك عبدالعزيز آل سعود، وغير ذلك مما يمتع ويفيد.
رحم الله الشيخ، فلقد ترك فراغا في وعي محبة وقلوبهم، حتى يخال المرء انه ليس رجلا مضى، ولكنه دهر انقضى، فلم تعد الأشياء كما كانت عليه, وكل ما نرجوه الآن وقد فارقنا، وما زال معنا، ان تصدر كل أعماله التي لم تر النور، وان تجمع مقالاته في كتب، وان تستمر مجلة العرب في أداء دورها الحضاري، وأحسن الله عزاءنا جميعا بالشيخ، إنا لله وإنا إليه راجعون .
جامعة الملك سعود كلية الآداب
|
|
|
|
|