| عزيزتـي الجزيرة
كأني بالشاعر الذي قال هذا البيت الشارد إنما أراد به قصدا الشيخ حمد الجاسر:
أتعبت نفسك بالتاريخ تكتبه
حتى رأيناك بالتاريخ مكتوبا
أجل فهذا العالم المحقق الذي ظل سبعين عاما مخبرا عن التاريخ باحثا فيه أصبح اليوم خبرا من أخباره، حين توارى عن أنظار محبيه يوم أن غيبه الموت في الرابع عشر من أيلول 2000م.
وبرحيل هذا العلم الجهبذ تخسر الساحة الفكرية في وطننا العربي واحدا من أهم رموزها وأعلامها، وقد أثراها بالمئات من المؤلفات والدراسات والأبحاث في تخصصات مختلفة وسجل حضورا وهاجا على خارطة الفكر العربي بما كان له من حضور فكري فاعل في الندوات والمؤتمرات العربية وما اكتسبه من صيت ثقافي ذائع، منذ أن اختير عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ ما يقرب من نصف قرن وهو محط ثقة المفكرين الأعلام من أبناء الأمة العربية والمستشرقين، أولئك الذين تزاحموا بالمناكب في ساحة داره (دارة العرب) ما بين جيئة وذهاب وغدوة ورواح ينهلون من معينه العذب، وكلهم يخرج مسرورا من عنده وقد وجد لديه ضالته، فهذا سائل عن معلومة وذاك باحث عن مخطوطة وآخر عن وثيقة وغيره يسأل عن عمه أو خاله الذي سافر إلى الهند أو الشام ولم يعد!!
وليست البلاد السعودية على عظيم لوعتها هي التي تبكي وترثي لوحدها رحيل العلامة المجاهد، إنما تبكيه وترثيه كل الوهاد والصحارى العربية التي فجعت برحيله، من طنجة المغربية المتكئة على الشاطئين الأطلسي والمتوسط إلى الكويت الغارقة بأحضان الخليج الرؤوم مرورا بتونس الخضراء وقاهرة المعز التي يأوي إليها الشيخ كاتبا باحثا محققا محاضراً، وبيروت التي عشقها الشيخ وقضى فيها شطرا من حياته والتي بقدر ما منحته من الحب منحته من الحزن عندما تجرع فيها مرارة الحزن والحرمان يوم أن استشهد ابنه محمد على ساحلها الغربي، أما الجزيرة العربية بأعلامها وأماكنها، ما علا منها وانخفض، فلا تسل عنها صاحبي، فهي منازل لها في القلب الكبير للشيخ منازل!! لقد شاب فوده من أجلها واستهام بها فؤاده، كانت تسكن قلبه حيثما حل وارتحل، من أجلها شقي وتعب، بحث وكتب، سافر واغترب، بعد عنها واقترب، كانت ترافقه في حله وترحاله، حتى ألمانيا التي يسافر إليها في كل عام، كانت هذه المعالم والأماكن تسبقه إليها وتأوي معه إلى فراشه، وأكاد أجزم أنها كانت حاضرة لديه ملء سمعه وبصره في غرفة العمليات الجراحية بأمريكا وهو يتخذ قراره بتسليم جسده النحيل إلى بنان طبيبه الماهر، الذي تجاوزه بنان الدهر هذه المرة فأصاب:
بنانك ماهر أدري ولكن
بنان الدهر أمهر إذ يصيب!!
لقد تسربت هذه المعالم والأماكن في مسامات جسده، فأصبحت فكره الذي يفكر فيه، وشغله الذي ينجذب إليه ويجد نفسه فيه، لقد أعطى هذا العالم أكثر مما طلب منه وضحى أكثر مما يجب، وذهب إلى ربه وما أنصفناه، بل حملناه الكثير، وسخر البعض من عطاءاته،ولكنه ظل كالطود الشامخ يعمل بأناة وروية، قراءة وبحثا وتحقيقا وتدقيقا وتمحيصا، ودراسة مستوعبة لأمهات الكتب والمعاجم القديمة والحديثة، اقتفى آثار البلدانيين والمؤرخين فكانت استدراكاته وتتبعاته منعطفا مهما في كتابة جغرافية وتاريخ البلاد العربية عموما والسعودية خصوصا، وعندما اقول إن قرى الزلفي ونفوده تتشح بالسواد هذه الأيام لرحيل العالم المحقق، فليس هذا استلهاما لرؤى اقليمية ضيقة، إنما لأن هذه القرى (العُقَل) وتلك الرمال وذاك الجبل الأشم في منطقة الزلفي قد نالت من اهتمام الشيخ ورعايته ما لم تنله من احد من أبنائها ، حيث كتب عنها محققا منقحا، فهو أول من كتب عن العُقَل (جمع عقله) باحثا في مدلولها اللغوي والاصطلاحي محاولا إثبات ان هذا العُقَل هي ما كان يعرف قديما ب جفار بني تميم فما زلت وسأظل أتذكر ذلك اليوم الذي أمدني فيه بهذا البحث عن تاريخ العُقَل، حينما دخلت عليه في مكتبته في صباح شتائي لطيف من صباحات كانون الثاني الجميلة لعام 1992م متأبطا العدد الثاني من مجلة صدى طويق، وبعد ان تشرفت بوضع قُبلة على جبينه الناصع اطلع على المجلة فسر غاية السرور وأشاد ونصح ووجه وألح بالنصح في أن نبتعد عن المباهاة في إخراج المجلة والمبالغة في نوعية الورق الصقيل اللامع، إذ إن هذا سيكلف الكثير مما لا تستطيع المجلة الاستمرار معه والمحافظة عليه، فابنت له ان المجلة تحظى بدعم يغطي تكاليف طباعتها، قال : تستطيعون إخراج عددين من هذا الدعم!! وكنت كلما التقيته أشاد بأعداد المجلة ووجه ونصح، وفي العدد الماضي من مجلة صدى طويق كتب الشيخ عن (جزرة) مبحثا مهمّا عن هذا المعلم، وبالمناسبة فجزرة ليست منطقة او مدينة أو قرية!! إنما هي من المناهل القديمة وقد تاهت معالمها اليوم إثر طغيان رمال الثويرات عليها، ولكن الشيخ في دراساته وأبحاثه لا يفرق بين قطر وآخر، فكل معلم في جزيرة العرب علاه وهبط بقدميه في كل واد، باحثا محققا، وعندما سألته الاذن قبل أشهر في أن أنشر رسالة جنى النحلة في كيفية غرس النخلة في العدد العاشر من صدى طويق الصادر قريبا، أذن وشجع وبارك، وهي رسالة مهمة كتبها أمين بن الحسن الحلواني ونشرت في الهند عام 1304ه وقد شارك فيها الشيخ في ندوة النخيل بالأحساء عام 1402ه الذي أريد قوله هنا ان الأعمال الفكرية الكبيرة التي قام بها شيخنا لم تثنه وتشغله عن مد يده الحانية لتشجيع الأعمال الثقافية الصغيرة في مختلف مدن وقرى مملكتنا الغالية، بل شجع ورعى ووجه، ولربما كان هذا الأمر سرا من أسرار عظمة هذا الرجل المتواضع الذي أجمعت الأمة على علميته وحجيته، حتى العامة من الناس الذين لم يقرأوا للشيخ يتفقون مع مثقفي الأمة ومفكريها بان الشيخ رمز من الرموز الفكرية وقامة من القامات الثقافية في هذه البلاد.
وعلى إثر رحيله إلى رحمة ربه تصدى للكتابة عنه وعن تاريخه وجهاده أبناؤه وتلامذته ومحبوه ورفاق دربه، وأفردت الصفحات المطولات لتتحدث بما للفقيد من مآثر وآثار، والذي أريد أن يعلمه الجمع ممن ضم مجلسنا ان ما يكتب اليوم من دراسات ومقالات ليست تاريخا لحمد الجاسر، فالرجل يحتاج إلى مزيد من القراءة والبحث والتحليل، لأننا من خلاله نقرأ كبرياء تاريخ وعظمة رجال، فقد دخل التاريخ من أوسع أبوابه وسيحتل مكانة بارزة من ذاكرة الأمة، فلن يذكر لسان اليمن وياقوت والادريسي وابن خلدون، إلا ويذكر إلى جوارهم لسان نجد الحديث الشيخ حمد الجاسر.
واعترافا بدوره وفضله أسبغ عليه محبوه ومريدوه في مقالاتهم العديد من الألقاب التي تتناسب ومكانته الفكرية والأدبية، إلا أنني أجد نفسي عاجزاً عن نعته بما يستحقه من الألقاب بخلاف لقب الشيخ ، ذلك ان جميع هذه الألقاب أراها تقصر دون قامته وهامته فهو حمد الجاسر ، مجردا من كل لقب ، نعم حمد الجاسر وكفى,, عليه رحمة الله ورضوانه.
محمد بن عبدالله السيف الزلفي
|
|
|
|
|