| محليــات
قبل أسبوع من نهاية الشهر الماضي، وأنا أدلف إلى المستشفى في الرياض، على أثر عارض صحي، سمعت بوفاة أستاذي محمد حلمي عليه رحمة الله وهزني النّبأ، وكنت أود أن أعبر عن شعوري نحوه، ونحو فقده، إلا أنني للظرف الصحي الذي كنت تحت وطأته، لم أستطع أن أفعل إلا قهر عبرة اعتجرت في الحلق، ودمعة ترقرقت في العين، ولم أتمالك نفسي إلا أن استعرض ذكريات الصلة التي جمعتني بهذا الرجل الذي كان يمثّل لنا طلابه النبل وحسن الخلق، والعطف المتنامي نحونا، والحرص على مصلحتنا فيما يجيد أن يوفره لنا، علماً ونصحا وإرشاداً.
***
** انتقل الأستاذ محمد حلمي إلى رحمة الله بعد عمر مديد لامس مائة وعشرين عاماً، قضاها في خدمة أبنائه الطلبة، معلماً ومديراً، يحظون برعايته، ويتقبل تقديرهم وإعجابهم، لِمَ لا، وهو الرجل الذي لم يُرَ غاضباً في حياته معهم، أو متجهما في وجوههم.
إذا أقبل رحمه الله بقامته المديدة، ومشيته الصحية السوّية، تحركت القلوب لمقدمه، كان يدرسنا الخط بأنواعه، ولا يكتفي بما حدده المنهج، ولا يعدد الحصص في الأسبوع، كان بينه وبين طلابه التقاء كامل في الرغبة على إعطاء المزيد مما عنده، وعلى تقبل طلابه المزيد من علمه وفنه.
فإذا كان ما هومقرر عليهم حصة واحدة في الأسبوع أعطاهم ضعفها، وإذا كان المنهج في سنة من السنوات يقتصر على تعليم خط النسخ تعداه إلى خط الرقعة أو الثلث,
كان الجاذب للطلاب ليس حسن الخلق، وجميل المعاملة فقط، ولكن مع هذا يأتي الخط الجميل، وتسهيل أمر قواعد الخط، وكان كل أنموذج يدور حول حكمة أو مثل، إن لم يسبق هذا آية أو حديث.
كان يأتي للمتميزين من الطلاب بكراسات للخط مطبوعة، يعطيها لهم زيادة في الجذب والتشجيع، وتسهيلا للدقة والاتقان، لايزال بعضها عندي إلى الآن، وعليها تصحيحه، وتعديل المعوج مما كتبت، بعض هذه الكراريس لاتزال عندي الآن، احتفظ بها خِدراً لذكرى جميلة، ومهداً لاعتزاز، أنعم في صداه إلى اليوم, وعندما أتمعن في تصحيحه لما قدمته من خط أجد العناية التامة حتى عندما كنت مبتدئاً، فنظرته إلى فنه ثابتة لا تختلف، عنايةً ودقةً وحرصاً.
***
** كانت تلك الحقبة التي مررنا بها تعتبر للخط امتداداً لعناية العثمانيين به، والخطاطون حينئذ هم أتراك، أو قد درسوا على أتراك، وكنا في أول الأمر، على هذا، نظن الأستاذ حلمي تركي الأصل، ولعل ما ثبت هذا في أذهاننا اسم حلمي ، وهو اسم كثيراً ما يسمي به الأتراك أبناءهم، إلى أن فوجئنا في يوم من الأيام أن الأستاذ محمد حلمي لا يمت في نسبه إلى الأتراك بصلة، وأنه عربي ابن عربي، فهو محمد حلمي بن حسين حلمي بن علي آل سعيد, فزاد هذا من مقامه عندنا، وزاد فخرنا أن يكون هذا الخطاط الماهر الفنان عربياً، مما غيّر مفاهيمنا فيما يمكن أن يكون عليه ابن العرب في هذا المجال وأمثاله من مجالات الإبداع الحضاري الجميل.
لم يكن الخط هو المادة الوحيدة التي وكل إليه تدريسها لنا، وإنما كان هناك أيضاً علم الصحة وخواص الأجسام، ولم يكن يدرس الصحة نظرياً فقط، وإنما كان رحمه الله يعيش هذه المادة عملاً، يطبقها بدقة على نفسه، ويطلب من طلابه تطبيقها, كان يرشدهم إلى المِشية الصحية، بانتصاب القامة، ورفع الرأس، ووزن الخطوة ورتابتها, وكان يغوص إلى أدق التفصيل في هذا، فيرشدنا مثلاً ألا نبلّل شفاهنا باللسان ، فقد يكون علق بالشفة غبار، وما كان أكثر الغبار حينئذ، وكان يرى أن نزيل ما قد يكون علق على يمين الشفة أو يسارها بالإبهام والسبابة.
***
** مثل الأستاذ محمد حلمي لا يموت فنه، فهو ينتقل من جيل الى جيل, علّمنا رحمه الله تذوق الخطوط، ومساقط جمالها، ومتعة النظر إليها، ومتعة كتابتها، وعلمنا المقارنة بين خط وخط، وقاعدة وقاعدة، ونسق ونسق, كان يجد متعة في بَري الأقلام، ولا يتضجر من كثرة كسر الطلاب لسنّ أقلام البوص ، ويطيل البال في تعليم الطلاب بريها، وهذا فن دقيق قائم بذاته حينئذ في دنيا الأقلام، ولا يعرفه حق المعرفة إلا من عاصر زمنه، وعاشر عمله.
***
** الأستاذ محمد حلمي مُرب قدير، يضاهي بإنجازه التربوي حاملي أعلى الشهادات، دخل معترك الحياة مبكراً، وعانى شظف العيش، وشح فرص العمل قبل العهد السعودي، ولما يئس من الحصول على عمل حكومي، اتجه رحمه الله إلى عمل حر يكون فيه سيد نفسه، مما يكون أقرب إلى قدرته حينئذ في التعليم، فخاض المعترك، ولم يفتح له الحظ ذراعيه.
ثم بزغت شمس الحكم السعودي, وواكب ذلك الرغبة الملحة الفائقة في نشر التعليم، فوجد الأستاذ محمد حلمي أن لديه لهذا بضاعة رائجة في هذا المجال، فدخل حقل التعليم، واستقر مدرساً بالمدرسة الأميرية، ثم مدرساً في مدرسة ابتدائية، ثم معلماً في المعهد العلمي السعودي، ثم مساعداً لمديره، ثم مفتشاً في وزارة المعارف، وخطاطا رسميا لها.
***
** قضى الأستاذ محمد حلمي في التعليم أكثر من خمسين عاماً وكان آخر عمل له خبيراً عاماً في الدوائر الرسمية، لكشف التزوير، حتى تقاعد عام: 1388ه، بعد عمل دائب نشط، مشرف نبيل.
***
** ولعل القليلين يعرفون انه كتب كتابا جميلا حقا سماه: خواطر,, خواطر من ذكريات ، طبعته شركة مكة للطباعة والنشر، في حدود عام 1407ه, في هذا الكتاب سجل حافل موثق عن الحياة التعليمية والاجتماعية في مكة المكرمة قبل الحكم السعودي وبعده، ويُعد من أهم المصادر لتاريخ التعليم منذ بدء الحكم السعودي.
والكتاب جذاب، تمسك فيه كاتبه بما يعنيه العنوان، فكان ما فيه وروداً وازهاراً منتقاة من حياة حافلة، تبين الأولويات، والمراكز والتطور والاهداف في تلك الحقبة من بدء السعي لنشر العلم والتعليم، وتعطي لمحة موثقة عن أمور مفردة ولكنها قناديل يهتدي بها الباحث، وكاتب تاريخ التعليم في بلادنا.
سوف تبقى ذكراك، يا سيدي، حية بهجة في أذهاننا، تشاطر ما في قلوبنا لك من حب، وأنت الرجل الشريف، عزيز النفس، كريمها, سوف يذكرك كل من قدر فن الخط، حتى لو قل عدد هؤلاء، فالمقياس ليس في العدد، ولكن في النوع، ونوع هؤلاء يرقى إلى ما كنت ترجوه: وأم الصقر مقلاة نزور .
رحمك الله رحمة واسعة، وأوسع لك في جناته، وأعظم الأجر لذويك، وجبر مصابهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
|
|
|
|
|