| مقـالات
كان حديثه إلينا يتسم دائماً بالحب,, في الحفاوة واللقاء، وفي المخاطبة والمباحثة,.
كان كثيرا ما يقدم لحديثه بكلمة حبينا حبينا ابو صالح يرى كذا,,، حبينا ابو عمرو قال كذا,, احبتنا في مصر يرون كذا,, احبابنا في العراق لديهم كذا,, ولكن ياحبيبنا الموضوع كذا وكذا,, هكذا كان حمد الجاسر يدير الحديث بين تلاميذه ومريديه، والحبيب هو كل من اتصل بالعلم بسبب وعرفه حمد الجاسر، ومع ادبه الجم، وعلمه الغزير، لم يكن يفرض رأيا على احد ولكنه لم يكن يتنازل عن رأيه إلا بالحجة والبرهان, الجاسر في حياتنا اشبه ما يكون بالظاهرة الكونية التي لا تنتهي العلاقة بها بمجرد ظهورها ولكنها تستحق الدراسة والتحليل, لقد عبر دنيانا الثقافية شهابا مضيئا وملأها نورا، وأسهم بفكره وجهده في مجالاتها المختلفة لأكثر من سبعين سنة، والآن وقد خطفه الموت منا آن لنا نحن الذين عشنا ظاهرة حمد الجاسر ان نقف امامها متأملين، وأن نكب على تجربته دارسين ومستفيدين، آن لنا ايضا ان نقول له: وداعا ايها الحبيب الذي غمرنا بالحب، وأهدى إلينا اغلى ما يملك من ثمار التجربة الزاخرة بالعطاء والنابضة بالوفاء.
ومن تمام التأمل بعد ان صمت صوتك ورحل جسدك ان نتذكر مواقفك وان نستحضر صورة اعمالك الجليلة، ولاشك ان كل واحد من محبيك أو احبابك كما كنت تفضل ان تدعوهم قد عرفك اول ماعرفك عند نقطة معينة من حياته، ولعله بقدر الزمن الذي عرفك به تكون خسارته بفقدك، وحزنه عليك، وخاصة إذا كان من المنتمين اليك ثقافيا وعلميا, بالنسبة لي فإن الخسارة كبيرة، والحزن فادح بهذا المقياس، فقد عرفتك منذ وقت مبكر، منذ كنتُ طفلا في العاشرة من العمر، رأيتك مع والدي صديقين تلتقيان في سكننا قرب باب الزيادة من أبواب الحرم المكي الشريف، او في حصوات الحرم، او في منزلك، او قهوة عصمان بظاهره المعابدة، التي شهدت بعض جلساتها الثقافية.
كنتم مجموعة من المشايخ والمثقفين تخرجون عصر كل خميس الى ذلك المكان من العمران في ذلك الوقت، وتديرون احاديث دينية وأدبية وثقافية، وأذكر في مثل هذه الندوات المصغرة من اصدقاء والدي رحمه الله الإمام التقي الشيخ عبدالله عبدالغني خياط مدير مدرسة الامراء في الرياض، وإمام الحرم المكي الشريف، وعضو هيئة كبار العلماء فيما بعد، والاستاذ احمد علي اسد الله الكاظمي الكاتب المؤرخ الاديب وعميد كلية الشريعة فيما بعد، وأخوه الجليل الفاضل الاديب عبدالحميد حامد اسد الله وكان على قدر كبير من الثقافة والعلم مع روح ظريفة واسلوب في الكتابة جميل، وإن لم يخلف آثارا منشورة، والاستاذ عبدالله المزروع، وغيرهم رحم الله الجميع ورحمك معهم, لقد تحدثت عن هذه الجلسات في مقدمة كتابك مع الشعراء وذكرت انكم قرأتم في بعض هذه الجلسات قدرا من كتاب الاغاني , كنت معجبا بك منذ تلك الايام، يغذي هذا الإعجاب والدي الذي كان يتابع مقالاتك في ام القرى، ولست انسى مشواري الاسبوعي صباح كل جمعة لشراء هذه الجريدة من مكتبة اظنها مكتبة الثقافة في مكة المكرمة.
وأذكرك ياسيدي أيام طفولتي وقد استقبلتنا خير استقبال في الظهران حين وصلناها بعد رحلة جوية هي بمقياس هذه الايام من اشق الرحلات، ولكنها كانت في تلك الايام من اجملها واكثرها سرعة وراحة، واذكر اننا غادرنا جدة في الصباح ووصلنا الظهران في المغرب، بعد توقف في مطار الرياض المتواضع, لقد قضينا في الظهران اياما سعيدة بوجودك، قبل ان نتابع الرحلة الى البحرين ثم بغداد لإجراء عملية في العين للوالد, ثم بعد ذلك لست انسى لقاءاتي بك المتقطعة في القاهرة عندما كنت ادرس فيها، ومنها لقاء حميم جمعك بوالدي في منزلنا وسجلته بالصور التذكارية, ولم تنقطع صلتي بك وإن تباعدت بيننا فرص اللقاء، وخصوصاً في فترة بيروت التي اصدرت منها مجلة العرب، فقد كنت كثيراً ما أسعى اليك حبا في قربك والاستفادة منك, ولست انسى اريحيتك حين طلبت منك تعريفي بصديقك العلامة الاستاذ خير الدين الزركلي بعد ان اهدى مكتبته الى جامعة الملك سعود، فاهتممت بالموضوع ورتبت موعد الزيارة، وذهبت بمعيتك الى الاستاذ الزركلي، وتلك زيارة ثرية لا يمحوها النسيان، كانت تلك الزيارة قبل احداث لبنان، وكان الشيخ الزركلي في صحة حسنة، وقد أبديت له شكر الجامعة وتقديرها لإهدائه المكتبة، ثم حادثته في امر مكتبته في بيروت، فأشار الي ان هذه المكتبة مهداة ايضا الى جامعة الملك سعود، وانه عندما يفرغ من بعض اعماله التي يشتغل بها فإنه سيطلب منا في الجامعة تسلمها, لكن الاستاذ رحمه الله عندما توفي، لعب في رؤوس بعض ورثته المطامع فأنكروا على الجامعة هذا الحق وامتنعوا عن تسليم المكتبة إلا بثمن ضخم، لم يكن في طاقة الجامعة آنذاك ان تدفعه, في تلك الزيارة التي كنت فيها بمعيتك اذكر ان الاستاذ الزركلي اخرج لنا من درج مكتبه اوراقا مكتوبة بالقلم الرصاص، قال إن كاتبها جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز يصف فيها احدى الحملات العسكرية التي قادها وقد كتبها بخطه بناء على طلب من الزركلي, ثم كانت لنا لقاءات اخرى زاخرة بالفائدة والمتعة معك خارج المملكة في باريس وفي استانبول وعَمّان، لكن اجمل تلك اللقاءات وامتعها بالنسبة لي كانت في زيارتك الاخيرة للقاهرة التي شهدت فيها مؤتمر مجمع اللغة العربية, في هذه الزيارة الاخيرة انفردت بك على مدى عشرة ايام كنت اراك فيها يوميا تقريبا، ولساعات طويلة وكنت فيها كعادتك ابويا حانيا تسأل عني اين كنت إن غبت عنك، فإذا قلت لك إني كنت ازور المكتبات لأبحث عن الكتب سألتني عما اقتنيت منها، وأدرت حديثا حولها او حول مؤلفيها, وأحيانا كنت للطفك الجميل تسألني عن الموضوع الذي افضل ان نتحدث حوله، معللا بتواضعك المعروف ان كبار السن قد يثرثرون فلا بد من ضبطهم، وكنت ارد عليك بأنني لم آت إلا لسماع ثرثرتك التي هي في صميم العلم، وكان قصدك الذي اعرفه إمتاع جليسك بما يحب من الحديث لاجره إلى احاديث تجلب السأم, ذلك حديث اللقاءات خارج المملكة اما عندما استقررت في الرياض فقد اصبحت قريبا في المكان كما كنت قريبا في القلب.
تلك هي المعرفة الشخصية التي جعلتك بمرتبة الوالد والمربي، وهنا لك المعرفة العلمية التي تمتزج بها ولاتنفصل عنها، ولها شأنها من المشاعر والاحاسيس وفيها عرفتك عالما كبيرا، واستاذا جليلا، ورائدا من رواد الثقافة والتراث في بلادنا.
كنت ياسيدي مغامرا وجريئا عندما ادخلت الطباعة والصحافة الى المنطقة الوسطى من المملكة، فأصدرت اليمامة سنة 1372ه 1952م، وأشهد ان طريقك لم يكن مفروشا بالورود بل كنت تنحت في الصخر، ولاشك ان ندرة المواد الصحفية هي التي جعلتك تحرر كثيرا من مواد العدد الاول، ولكن ما إن وصلتك المشاركات من الكتاب حتى فسحت المجال لهم، وقلت في كلمة صدرت بها العدد الثاني من اليمامة مخاطبا القارئ: وسترى في هذا العدد ايضا اننا حصرنا رئيس التحرير في دائرة ضيقة من الصحيفة بعد ان تحجر واسعا في العدد الاول بكتاباته التي وإن افادت الخاصة او خاصة الخاصة من الباحثين إلا اننا الى كتابات ذات صلة وثيقة بحياتنا المعاصرة اشد حاجة,, وقد رأينا أن بعض المؤلفين او الناشرين يحتاجون الى الدفاع عن انفسهم والى تبيين آرائهم التي قد تتعرض الصحيفة لنقدها ففتحنا باب من حديث الكتب وسننشر فيه كل نقد او دفاع مهما بلغ من الشدة والعنف بشرط افادته للقراء، وصلته بهذه الصحيفة التي من اهدافها قل الحق وإن كان مراً وأشهد ان هذا كان رأيك الى آخر عمرك، وقد كررته في احد أعداد السنة الاولى من مجلة العرب قائلاً: وإن كلمة نقد قائم على اساس مهما بلغت من الشدة والقسوة، لهي اوقع في نفسي، واعمق اثرا واكبر تقديرا من تلك الكلمات الطيبة الكريمة، انها والحق يقال هي الاثر الباقي العميق في النفس والذي سيكون له المحل الملائم في صفحات مجلة لايريد صاحبها إلا ان تكون على خير مايريده قارئها إمتاعاً وفائدة وحسن أثر وأشهد انك لم تكن مجاملا لأحد في مطبوعاتك فقد نشرت في احد اعداد اليمامة المبكرة نقدا عنيفا كتبه قارئ مطلع لبحث نشره احد اعضاء اسرة التحرير لديك، ولم تجد غضاضة في نشره, بل لم تجد غضاضة في نشر رسالة تهجم عليك فيها احد القراء تهجما لايليق، واتهمك فيها بخديعة الشعب، والعبث بكرامته، ومحاولة تضليله بأعمال مرتجلة، ثم قال:أنا لا أنتظر منك نشر كتابي هذا، ولا أريده، فمستوى التفكير لديك ولدى كثير من امثالك اضيق واخفض من ان يتسع لسماع لمثل ماجاء فيه من كلمات صريحة اليمامة، ع10، السنة الاولى ومع مافيه من قسوة غير متوقعة في حقك فقد نشرت ما قاله، وعددته نوعا من الثناء المحبب الى القائمين على الصحيفة وجعلت القارئ حكما بينك وبينه.
وأمر آخر يلحظه المتابع لمسيرتك الغنية الطويلة، انك مع اهتمامك بالتراث وانصرافك التام له إلا انك لم تقع اسيرا له، مقيدا به، مشدودا اليه وحسب وإنما كنت دائما متأملا في الحاضر مستشرفا للمستقبل, مفكرا في مصير امتك، كنت نهضويا تنويريا تقدميا، ولكن بمفهومك الخاص المعتمد على ثوابت الإسلام الخالدة، ومرتكزات الثقافة العربية الإسلامية، ومع انك عرفت كبار المنظرين العرب لشروط النهضة والتقدم إلا انك كنت تختط لنهجك الخاص في تلك شروطا، واهمها الخلاص من الاستعمار الظاهر والمستتر عسكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا, لم تكن تنويريا على طريقة المستغربين الذين يجرون وراء كل ماهو غربي، وإنما كنت تنويريا بأسلوب الاعتماد على الذات، واستنفار القوى الكامنة في الشخصية العربية، واستثمار المخزون الذاتي الإيجابي للامة العربية.
ومن الجدير بالذكر القول بأنك من اوائل من دعا الى التوجيه الوحدوي على صعيد الثقافة والفكر لتكوين ثقافة عربية موحَّدة بفتح الحاء موحِّدة بكسر الحاء نجد ذلك واضحا في مقال مؤثر مطول نشرته في اليمامة سنة 1374ه 1954م بعنوان شباب حائر وما قلته فيه: حينما استيقظت هذه الامة رأت نفسها في مؤخرة الركب، ورأت الامم الاخرى قد قطعت المراحل الطوال في ميدان التقدم نحو حياة افضل من حياتها، ورأت نفسها بعد ان كانت قوية مرهوبة الجانب موفورة الكرامة، نافذة القول، مسموعة الكلمة في عهدها الماضي قد اصبحت مثلا للضعة والهوان، والذل والضعف، فماذا تفعل لاسترداد عزتها وكرامته,, وماذا تعمل لكي تلحق بالركب فتبلغ الغاية,, اترجع القهقرى الى غابر عهدها,, ام تقطع صلتها بذلك الماضي,, اصبحت هذه الامة مترددة حائرة,, وقد اختلف قادتها العلماء والرؤساء فمن داع الى الرأي الأول، وآخر يرى الخير كله في تنكب هذا والأخذ بالرأي الثاني، وثالث يحاول التوفيق بين هذين بالتلفيق، ورابع يغط في نومه لايشعر بما حوله من ضجيج، وخامس مذبذب لايلتزم حالة ولا يلازم طريقة، بل يتلون بكل لون ويسير وراء كل ناعق، وأصبح لكل واحد من هؤلاء اتباع وأشياع,, فتشعبت الطرق بتشعب هذه الآراء المتناقضة، وانتشر في صفوف الامة من الاختلاف والفوضى مازاد في تفريقها وتمزيقها، في وقت هي في أشد الحاجة الى التأليف والتئام الشمل,, فاصبح الشباب وهم امل الامم في الملمات على الدوام لايدرون كيف يسيرون ولا اين يقصدون فالمدارس متعددة متغايرة الاهداف والمناهج بتغاير الاقطار العربية، بل بتغاير آراء اولئك الذين يسيطرون على توجه تلك الاقطار,, الخ لقد نعيت على القابضين على زمام التربية في البلاد العربية تشتتهم وعدم اتفاقهم على زاد موحد يغذون به ابناءهم لمواجهة المستقبل.
وكأنك كنت تفكر في ذلك الزمن المبكر في الاتفاق على حد ادنى من الاستراتيجية الثقافية الموحدة للبلاد العربية, الامر الذي لم تنتبه اليه الجامعة العربية إلا بعد اكثر من ثلاثين عاما من دعوتك, ومع ذلك فإن تلك الاستراتيجية الثقافية بعد ان توصلوا اليها منذ مدة لم تستطع دولة عربية واحدة ان تضعها موضع التنفيذ!! وها أنت ترحل عنا هذه الأيام من عام 1421ه ومازالت اسئلتك التي سألتها قبل 47 عاماً لم يجب عليها، ومازال كل حزب في امة العرب بما لديهم فرحون مازالت الرؤية غير واضحة، والتخبط يضرب اطنابه في كل مجال والمستقبل غير مستشرف، في ظل احداث جسام تستهدف الامة حضارة ووجودا, والأخطر من ذلك ان موجة التغريب لم تنشط في اي وقت نشاطها هذه الايام، والتغلغل الاجنبي اصبح واقعا معيشا.
وكنت تنويريا ياسيدي عندما اردت ان توقظ الناس وتبث فيهم روح مقاومة الغزو الاجنبي بكل صوره فأعلنت عن مسابقة في اليمامة سنة 1374ه 1954م للكتابة في موضوع انجع الوسائل لتحرير الشرق من نير الاستعمار سياسيا كان او اقتصاديا او فكريا وجعلت المسابقة مفتوحة لجميع ابناء الوطن العربي, وجعلت الجوائز بالريال السعودي والجنيه المصري او مايعادلهما.
تلك جوانب قد لايعرفها ابناء الجيل الحاضر عنك فقد الفوك دارسا ومحققا للتراث، مهتما بتاريخ امتك وجغرافية بلادك، تعيش في الماضي وتعتني به ولكن الواقع انك مع ذلك كله كنت متعدد الجوانب، وهي جوانب مضيئة تكون في مجموعها شخصيتك الفذة.
فيا حبيبنا الجاسر ما أعظم خسارتنا بفقدك، وما أحوجنا اليك، ولكن، وقد مضى امر الله بما اراد، لم يبق لنا إلا ان ندعو لك راجين الله ان يجزيك عما بذلته في سبيل امتك وحضارتك ووطنك خير الجزاء، وان يشملك بعفوه، ويمن عليك بغفرانه، وأن يسكنك فسيح جناته، إنه على مايشاء قدير.
* عضو مجلس الشورى
|
|
|
|
|