| مقـالات
هناك رواية لكاتب دنمركي تدور حول مشهد ينقله الكاتب بحذافيره وجميع تفاصيله المملة والدقيقة، وهو جالس على شرفة منزله الريفي، وتستمر الرواية الى ما يقرب من منتصفها بنقل التفاصيل الدقيقة والصغيرة التي تبعث على السأم والملل ويضفي عليها الكاتب بعضاً من خياله الخاص ومشاعره الداخلية ومنظاره الشخصي الذي ينقل لنا الوقائع بحيث تصبح هي الحقيقة الوحيدة القابلة للتصديق في اجواء الرواية، وفجأة يختار الكاتب للبطل ان يغير مقعده ويختار مقعداً آخر اكثر اقترابا من الشمس لان الرياح الجنوبية الباردة قد ازعجته!! عندها ومع تغير مقعد البطل تتغير نظرته للمكان تماما ويصبح يمتلك منظورا مغايرا تماما للمنظور الاول، بمجرد أن ابتعد أمتاراً قليلة عن مقعده الاول، فيكتشف ان تلك البحيرة العذبة التي كان يتغنى بصفائها وزرقتها، تعاني من التلوث لان كل قاذروات المزارع المجاورة تصب فيها، بينما ذلك المزارع الشاب النشط الذي يسعى في الحقل بهمة ونشاط، يحاول فقط في مسعاه هذا ان يلفت نظر زوجة ساعي البريد الجميلة في ظل غياب زوجها، والارملة التي تعجن العجين امام منزلها بنشاط قد اختارت هذا الموقع لتثير غيرة وحسد جاراتها الجياع في ظل الضيق المادي الذي تعانيه القرية، وهكذا يستمر الكاتب في سرد التفاصيل التي سردها مرة سابقة ولكن من منظور مختلفاً تماماً حتى يشعر عندها القارئ بأنه يقرأ رواية مختلفة تمام عن سابقتها ولا تمت بصلة الى التفاصيل التي استحوذت على نصف الكتاب الاول!!
هذا الاطار الفني الأخاذ الذي اختاره الكاتب لروايته يبين لنا ببساطة وبلغة تخلو من التقرير والوعظية بأن بضعة امتار قليلة بحثا عن الشمس من الممكن ان تغير لنا منظورنا الى الحياة تماما لاسيما ونحن خاضعون في هذا المنظور الى حواسنا القاصرة دائما.
وفي رواية الصخب والعنف للكاتب الامريكي وليم فوكنر يتوسل نفس الاسلوب في سرد الرواية بحيث تروى نفس الرواية على لسان عدة اشخاص ومن ضمن هؤلاء الاشخاص شخص يعاني ايضاً من بعض العته، تلك الرواية التي كتب الكثيرون على نمطها من ضمنهم المبدع العربي الراحل جبرا ابراهيم جبرا في روايته السفينة او البحث عن وليد مسعود.
وهذا النمط من الروايات بحاجة الى كاتب مبدع متمرس بحيث يستطيع التقاط المشهد من جميع الزوايا وينسجه بالشخصية الساردة ومنظورها للحياة.
وسواء كان البطل هو نفسه وغير مكان مقعده ام ابطال متعددون يصفون نفس الحادثة الا ان روعة الابداع تبرز لنا هنا ان الحقيقة الكاملة ليست لدى احد من البشر، ومن يحاول ان يدعيها هو فقط واقع تحت وهمه الخاص الذي تنقله له حواسه القاصرة!!
اذا فما بالكم بأولئك الذين يرفعون الحقيقة سيفا مسلطا فوق رقاب العباد ويدعون بأنهم سدنتها ويمتلكونها دون العالمين ويتعرض مخالفوهم للتصفية المعنوية وصولا الى التصفية الجسدية!!؟؟
وسبحانه تعالى حين قال وما أوتيتم من العلم الا قليلا .
البريد الألكتروني : omaimaKhamis @ yahoo. com
|
|
|
|
|