| الاخيــرة
* لم تكن الجزيرة العربية أرض صحراء وبحر، كانت حرة من لحم ودم، من أشواك وحرير، تسري في جهازه العصبي كلما احتك الهواء برئتيه لم يكن معلماً وعلامة كان عاشقاً ينزف احلامه وحنينه على نحاس رملها، ولم يكن لي كشاهدة ومتورطة على وفي هذه الاسطورة العشقية الا ان أحاول منازلة جبروت الحزن على فقد الغالي بزهو ذكراه التي لن تموت ما دامت هناك أجيال تجدد العهد على عشق هذه الأرض.
فبين يدي الجزيرة العربية وقد عصبت رأسها من أقصاها الى أدناها حدادا على فراق حمد الجاسر فارسها المعرفي احل دمعي:
جبر الله عزاك ايتها الجزيرة العربية، عظم الله اجر خيلاء نخيلك، عظم الله اجر وادي الرمة والسرحان، عظم الله اجر مساربك الجوفية، عظم الله اجر جبال السروات واجا وسلمى، عظم الله اجر انتحاب الساحلين الشرقي والغربي، جبر الله عزاء الأرض التي استقبلته على حجرها الصلب وودعته على صدرها الحنون بعد ان اودع فينا العشق المعرفي والوطني لسمومها ورطوبتها بحرها وبردها من غرتها الى كاحلها.
* لابد انني من نساء هذا الوطن القلائل جدا ممن حظين بالتتلمذ مباشرة على يد العلامة حمد الجاسر المطرزة بشجن الجزيرة العربية وأشواقها كنت اخرج من الفصول الدراسية واحيانا أهرب منها عامدة متعمدة وآتي اليه متأبطة كتبا جافة كحليب مصنع لأغترف من ماعون علمه الفوار.
على يد حمد الجاسر تعلمت ان سراب الصحراء ليس حقا سراباً وانما حبر حلال لكل فتاة وصبي من عمر الحلم عمري وقتها الحق في الكتابة بمائه السري.
على يد حمد الجاسر تعلمت ان اليمامة ليست جزءاً من جغرافيا نجد وانما اجنحة تسري بنا الى سموات جديدة كما فعل قبل نصف قرن لتعود بنا مهما ابتعدنا الى مواقع القلب وكمين الأمكنة.
تعلمت من حمد الجاسر كيف تحدس زرقاء اليمامة قدوم المطر كما كانت قد حدست بفراسة خارقة تحركات الشجر.
تعلمت من حمد الجاسر كيف امشي حافية على رمضاء الصحراء لا أبالي بتلوي النفود ولا انثني لتأوهات الدهناء.
عند معين حمد الجاسر كسرت الحوض، مددت الدلو واكتشفت كيف يمكن ان نستشفي من العطش بمزيد من شهوة الماء.
كنت قد تعلمت من كتب المدرسة النفور من كتب الجغرافيا والتاريخ معا فلما دخلت الى مكتبته وقرأت ما اشار علي به من كتب اسردت تلك العلوم اعتبارها في عقلي وقد استطاع بصبر المعلم وبصيرة العارف ان يعلمني الصبر على قراءة كتب كان معظم جيلي قد انفض عن قراءتها وكنا ننظر اليها بشك او بغضب لولا انه عرف في مرحلة مبكرة من تشكلي الأدبي دون ان يحاول ترويض جموحي الا بداعي كيف يعلمني حرية ان انهل من مختلف مشارب فتنة الكتب.
اكتب هذه الذكريات الطازجة الجارحة التي تكاد توغل في البعد وأشعر بالندم يعتصرني على ما فرطت من واجبات الوفاء لتلك المرحلة المبكرة من حياتي فيما عدا كتابات قليلة ومهاتفات متباعدة مع ذلك الصوت الابوي الصادق.
لقد خرجت من تلك التجربة المعرفية الجاسرية بثمار علمية وأدبية لا تحصى خرجت بحس وطني عمدته تجربة العالم المواطن نفسه وبلقاءات مطولة اجريتها معه ونشر بعضها بمجلة طلابية وبعض آخر منها بمجلة اليمامة وقد جاءت تلك المقابلات تعبيرا أصيلا عن موقفه المساند لمشاركة المرأة في الحياة الأدبية والعامة الذي لم يحد عنه طوال حياته كما جاءت تعبيراً عن جرأة وجدية المرأة في التزامها بالكتابة كعمل ابداعي ووطني وقتها وفي اجتراح طروحات جديدة بالحفر في تجربة حمد الجاسر الفذة ببعدها السياسي والاجتماعي والتاريخي,غير ان اروع ما أدهشني في تلك التجربة هو ان اكتشف ذلك الشبه المريع بين شموخ الجزيرة العربية وبين بساطة وعمق الشيخ حمد الجاسر.
كلمة وفاء ليست اخيرة:
السيدة الجليلة ام محمد,.
عظم الله أجرك وأحسن عزاءك ايتها السامقة.
انبثق وجهك المجبول من خضرة أرض الجزيرة النادرة، من وهج شموسها السخية عندما خلع قلبي خبر الفجيعة.
ولابد ان ذلك لانني كلما كنت اراك كنت انظر بملء عيوني الى المرأة الوحيدة التي نافست الجزيرة العربية هي وبناتها على ذلك القلب الذي بقي يدق بعنفوان الشباب الى آخر دقة من تدفقاته.
لك جنة الخلد يا أستاذي ومعلم الأجيال,ولله الامر من قبل ومن بعد.
|
|
|
|
|