38
هذا البحر بأمواجه,, قد التهم ماءه، وكشف في عراء عن قاعه,, وأنت تقفين معي,, تنظرين بعينيَّ,,، وأنظر بعينيكِ,.
وبمثل ما تقرأين ما في دخيلتي، أقرأ ما فيكِ,.
مسافات بين شاطئ البحر وقاعه,.
وأشكال مما فيه لم نكن نعرفها,.
لكنكِ ذات مساء,, كنتِ إليَّ بكل تأملكِ,, وصدقكِ,, وحنوّكِ,, وعمقكِ,, بل حبكِ الكبير,, تتبسَّمين، ونحن نستمع إلى فيروز الشامخة، المائية الصوت، البحرية التموجات فيه، المنسابة كمائه حين يمدُّ في لحظات الهدوء,,، ويستعيد في لحظات الاحتضان,,، كانت تقول: شايف شو البحر كبير,,، كبر البحر بحبك ,, كنتِ تتبسمين في تأمل,, سألتكِ عما تحمل ابتسامتكِ,, لكنني تذكرين سرعان ما فهمتكِ,,، قلتُ لكِ في الفور: حتى البحر ليس في سعة هذا الحب,.
الآن ونحن نقف نناظر البحر وقد فرغ من مياهه، وتعرَّى جوفه، وكشف عن محتواه,, أعود لكِ,, أتذكَّر نظرتكِ,, وتأملكِ,, وعمقكِ,, وأشعر بحنوّكِ، وصدقكِ,, بل حبكِ,.
تأتينني,, وتكونينني,, ولا تلبثين أن تهدأي,,، أيمكنكِ أن تفصحي للآخرين بما أفضيتِ لي,,؟ ذلك لأنكِ كما قلتُ لهم,, ملكوتية العطاء، ولأنني أنثركِ في كلِّ لحظة حرفاً، وحساً، وأذكركِ عطراً، وبوحاً، وأمتح منكِ لأمنحهم,, فلتسمحي لي كي أفضي بما قلتِ: إن البحر ليس عميقاً، ولا هو واسع، ولا هو كبير,, ولا ثري,, فإن بحثوا عن العمق، أو السَّعة، أو الكبر، أو الثراء,, فليقفوا على شواطئ الداخل خلف صدورهم بين جنانهم,,، داخل أقفاصهم العظميَّة،,, هناك تكمن العوالم الجميلة,, هناك حيث خفقة الصدق، ورهجة الحس، وعنفوان الشعور,,، وحين تنطفئ الخفقة، والرهجة، والعنفوان,, فإن لا بحر ولا ثراء ولا عمق، ولا سَعة,, تضيق كلُّ الحقائق,, وتتصعَّد روح الحياة,.
أخذتِني إلى شواطئكِ,.
حملتِني فوق مراكبها,.
طفتِ بي عوالمها,.
ولما أزل أبحر فيها,, وأمتح منها,, ولما أزل لم أصل إلى كل
كلِّها,, ثريةً ثريةً,.
هنا تأخذني أمواجكِ,.
وتمتلئ قنوات يراعي,, أجده يدرُّ,, ويدرُّ,.
لا أستطيع كبح شلالات الضوء القادم منكِ,.
لا أقوى على مواجهة التدفق النوراني الذي ترسلين,.
,, أنت تأتين متى تشائين ,, لم يكن أجمل من هذه العبارة إلا أنني سمعتها منكِ,, حتى صوتكِ جاءني من عالمكِ الدافئ بالصدق,, وأنتِ تعلمين أنني لا أقوى على لحظة واحدة لا أتخيل وجودكِ فيها,.
كيف لي أن أقاوم هزيمة الفراغ الكبير الذي تعرَّى فيه البحر,, معه كي لا يُهزم,.
كيف لي أن أقاوم حزن البحر,, كي لا يحزن وهو يكشف عن صدره فلا مراكب ولا سفن ولا مياه ولا ثراء ولا لآليء ولا مرجان ولا حيتان ولا كنوز,, وتلك الأساطير التي نامت في أذهان الناس عنه، واستقرَّت في صدورهم، وتلك القوافل التي كانت تقلُّهم كي يجلسوا إليه ويفضوا بما في نفوسهم إليه، ويعهَدوا إلى موجه، وفسحة مداه كي يحملاها إلى جوفه، لتستقرَّ ضمن ودائعه التي لا تُحصى فإذا به قيعان فراغ لا ودائع ولا أسرار، لا شيء لا شيء,.
كيف لي أن أعزي هذا البحر,,؟
وأنتِ,, أتعزينه معي,, أم سوف تنهضين كما أنتِ في وجه الفراغ,, أيَّ فراغ,,، ترفضين لحظة أن يواجه الفراغ هزيمة الهزيمة فيه؟!,.
أنتِ تملئين كلَّ فراغ,.
أتدرين أن معنى البحر قد تلاشى,.
وأن لا بحر كما يعهد الحالمون؟,.
كيف للأحلام أن تُهزم في الصدور؟ إذا كانت الصدور هي البحور بمثل ما عُرف عن البحور؟ دعينا نلجأ إلى المدى,, هذا الذي لا يحدُّه شيء,, وليكن المدى هو البحر الكبير الذي لا يتعرَّى ولا يفرغ ولا ينكشف,,، وهو الذي لا يُهزم ولا يحزن,.
أنتِ أتذكرين بأنكِ المدى؟!
أتذكرين كيف ذهبت الطيوف في مدى اللا مدى المتناهي، وبكِ المتنامي، وبكِ الذي لا ينتهي؟,.
أنتِ اللحظة تبتسمين,.
أدري أنكِ تتأمَّلين,.
أعرف أنَّكِ تفكرين,.
ولكنني أشعر بكِ وقد بسطتِ يديكِ كي تلمِّيني وتنطلقي بي إلى مداكِ.
ولكن على يقين بأنكِ لم تنسي أنني فيه منذ أن كنتُ، ومنذ أن كنتِ,, ومنذ أننا معاً,.
ألا تدرين بأن البوح لا يغير الحقيقة؟
وبأن المسافات لا تُذوّب الواقع؟
وبأنكِ الحقيقة والواقع؟!
فكيف يأتيني الآن سؤالكِ؟,.
ولكن,, بالسؤال تفتحين أبواب مداكِ، وترسمين دروب خطاكِ، وتأتيني,, كي نحمل الكلام وننثر الحروف,, لنعمِّر ما في البحور بعد أن وقف البحر مرتدياً أساه,, كي نمحو عن جبهته هذا الأسى ونبحر في المدى الذي لا ينتهي,.
فقرّي عيناً,.
وانثري النور,.
|