| الثقافية
من القضايا التي شغلت الساحة الثقافية العربية في القرن العشرين، وبخاصة في مجال الآداب والفنون، وبصورة أكثر حساسية ودقة في مجال الشعر، العلاقة مع التراث، بكل ما تتضمنه هذه العلاقة من رؤى ومواقف وأشكال ومضامين وطرق مقاربة ومدى الانتماء لهذا التراث، وتقييم هذا الانتماء وما ينتج عنه من مسؤوليات، وقراءته وتفسيره أو محاكاته أو استلهامه أو اعادة انتاج بعض آثاره الفنية والأدبية أو توظيفه في الابداع الجديد عبر الاستعارة أو التضمين أو الحوار أو المداخلة، ومدى خصوصية هذا التراث وأصالته وعلاقته بأشكال ومضامين أنواع كثيرة من تراث الأمم الأخرى، شرقية وغربية، وحسية وروحية، ومدى التفاعل والتأثر والتأثير أو الحوار والمثاقفة أو الرفض أو الصدام أو محاولات التهميش أو الالغاء أو التجاهل أو العزل أو المحاكاة أو التقليد، وما يدور حول محاور هذه القضية من اشكالات حول الهوية والأصالة، والعلاقة بالآخر ونتائجها، والاستقلال أو التبعية.
ومن الاشكالات التي أثارتها هذه القضية: هل التراث العربي تراث واحد أم أكثر؟ وإذا كان واحداً لارتكازه على لغة واحدة هي حاضنة الحضارة والثقافة والتراث الواحد المشترك فكيف يمكن تفسير أو قراءة أو تقييم هذه المظاهر التراثية المتعددة في اجزاء الوطن العربي الواحد، كالتراث المشرقي، والمغاربي، والمصري، وتراث الجزيرة العربية، أو في أقطار هذا الوطن وداخل كل جزء منه، كالتراث اليمني أو البحريني مثلاً على الرغم من وجودهما داخل جزء واحد من أجزاء هذا الوطن والتراث العربي الواحد، عدا عن تعدد التراث داخل كل قطر وتنوعه، وهل هناك معالم رئيسية واحدة ومشتركة بين هذه الأنواع والمظاهر، وهل هناك تناقض أو تكامل بينها؟
وتفرع عن هذه القضية، أو جاورها، قضية أخرى ليست أقل أهمية، إن لم تكن أكثر حساسية ودقة، وهي الهوية، وحدتها أو تعددها، وعلاقتها بالتراث، بل وينطبق عليها ما ينطبق على التراث من تساؤلات أهمها: هل هناك هوية عربية واحدة أم أن لكل جزء أو قطر من الوطن العربي هويته، ودور التراث في تحديد أو تشكيل هذه الهوية، والاختلاف الذي ما يزال قائماً في توصيف هذه الهوية، ومدى تأثير ودور تعدد القناعات والأفكار والفلسفات وطرق تجسيدها، والعلاقة بين التراث والهوية من جهة والتاريخ الذي ينتميان إليه والمرحلة التي يمران بها من جهة ثانية، والعلاقة بين الماضي والحاضر والرؤية الجديدة إليهما والى حركة الوجود وتحوله الدائم، وما في داخل الحركة والتحول من جدليات موارة، بها ومعها يتفاعل الماضي والمستقبل وانسان الحاضر، وكل بحسب ثقافته ووعيه وقناعاته وأهدافه وحريته، ودرجة وعيه بحريته في قراءة هذه الجدلية وقراءة نفسه وما يحيط به فيها، وتجسد رؤاه واتخاذ مواقفه وأساليب تعبيره وردود فعله وشجاعته أو جبنه وجرأته أو تخاذله في تحقيق ذاته.
والثقافة العربية وتراثها، والهوية، وان تفرعت وتشعبت واتخذت ألواناً مختلفة ودخلت مناطق ضبابية أو تداخلت، هي، أولاً وأخيراً ذات أصل ونسب وحاضن واحد هو اللغة ، ولا علاقة لوحدة هذا الأصل بالدم الذي يختلط بدماء أخرى أو بالفكر أو الايدلوجيات التي قد تكون مستوردة، أي غير أصيلة، أو أصيلة ولكنها غير مشتركة من حيث قناعة أفراد الأمة بها.
اللغة العربية الفصحى، الأم الشرعية الوحيدة للتراث العربي والهوية العربية، والتي بقيت صامدة ومشتركة بينهم على الرغم من اختلاف انسابهم وقناعاتهم الفكرية وأماكنهم، على الرغم من التقلبات الاجتماعية والحضارية والتاريخية التي مرت بالأمة في تاريخها الطويل، والتي صمدت أيضاً وكمشترك باق ما بقيت هذه الأمة أمام كافة أنواع الغزو والاستعمار الأجنبي بما فيها الاستعمار التركي الذي تميز عن بقية أنواع الاستعمار بمحاولة طمس الهوية وهدم اللغة والقاء العرب في بؤرة التخلف والفقر والجوع والمرض ومحاولة عزلهم عن ركب الحضارة العالمية الناهضة الجديدة مما أفقدهم كثيراً من منجزاتهم الحضارية التي تحققت لهم في قرون الازدهار العربي الأولى.
في دوائر هذه القضايا والاشكاليات، ظهر وعي الشاعر العربي الجديد، والذي بدأ في منتصف القرن العشرين إلى أن بدأ يتحدد ويكتمل وينضج الآن، أكثر تحرراً وثقة وايماناً بما تقتضيه المراحل التي يمر بها الشعر العربي، وضرورة امتلاكه لرؤى ومواقف ووسائل ، نابعة كلها، من ثقافة وادراك عميقين لتراثه وهويته وحريته وحقوقه وواجباته، وبدأ، حين بدأ، بالتجديد في الرؤى والمواقف والاشكال الفنية، مستخدماً طاقاته الابداعية الجديدة واحساسه الأكثر صدقاً وقوة بنفسه وبني جنسه وما يحيط بهم من مظاهر وحقائق الوجود، ومقترباً من كل ما في الثقافات العالمية من مظاهر تقدمية مستقبلية، دون أن يتقوقع على نفسه خوفاً على التراث أو تقديساً له أو تشبثاً بالماضي وتنكراً للحاضر والمستقبل أو عاجزاً عن مثاقفة الآخر وحاكماً على نفسه بالجمودوالانتهاء ، ولكن متواصلاً مع ثقافات الأمم الأخرى تواصلاً ندياً انسانياً تاركاً للآخرين نموذجاً رائعاً للتواصل، ودون تبعية أو شعور بتضخم الذات، بل في مزج أصيل بين ثقافته وثقافة الآخر، محولاً ما يأخذه من الآخر إلى منتج أصيل وخاص به، محتفظاً بسماته وبهمته الخاصة، مستفيداً من هذه المثاقفة في تطوير ابداعه وما ينتج من آثار فنية وابداعية يوظفها لتحقيق ذاته ووجوده واستقلاله الأصيل.
|
|
|
|
|