أولا: خالد
المكان: الرياض
الزمان: الخميس بين الرابعة عصرا والرابعة وخمسين دقيقة,,.
كان خالد قد ترك سماعة التليفون عاجلا بعد مكالمته لصديقه ناصر، وقد توجه لسيارته الصغيرة ذات اللون الأحمر الفاقع لحبه لهذا اللون ولتميزه بين سيارات اصدقائه في مدرسته الثانوية بالرياض,, ركب خالد سيارته واضعا قبعته التي اختارها من محل بيع القبعات الرياضية في اليوم السابق، والتي لا تنفك عنه دائما,, وقد كانت تحمل هذه اشارة تدل على علامة لإحدى شركات الملابس الرياضية العالمية,, وفي عجلة من أمره ترك منزل اسرته دون ان يراه أحد او يودع هو احداً من افراد أسرته,, ولم يعرف خالد ان هذه اللحظات كانت آخر مرة سيشاهد فيها والده الذي يعمل في شركة ووالدته ربة البيت وأخويه اللذين يصغرانه في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، أحدهما في الصف السادس محمد والآخر سعد في الثاني متوسط، وشقيقته ريما التي تدرس الطب بالجامعة.
كان خالد يقود سيارته بطريقته المعهودة انحرافات مفاجئة وحركات سباقية للسيارة وتفحيط يثير سخط الآخرين من حوله,, وفوق كل ذلك سرعته المعتادة,, توقف أمام أحد الكافيهات وطلب قهوة كابتشينو وبينما كان يتم تحضيرها له كان يقرأ عن ناديه المفضل الهلال، وموضوعه الساخن احتراف سامي الجابر,, اخذ قهوته ورمى الخمسة ريالات ومشى الى سيارته,, ويحب خالد دائما ان يلفت النظر الى شخصيته,, فقد كان ممسكا بقهوته بيده عاليا حتى يراه من حوله من في السيارات,, ربما كان يريد ان يبرز شيئا عن شخصيته,, مثل كونه شخصا مميزا بما يحمله ويظهره أمام الناس,, ويريد ان يقول للناس حوله أنه شخص يستحق النظر والمتابعة والاهتمام,, وهذا النوع من الشخصيات المراهقة تُتعب اسرتها واصدقاءها ومن حولها حتى ممن لا يعرفها من الناس,, كان خالد قد انطلق بسيارته من حي الورود متجولا فيما يبدو بين طريق الأمير عبدالله وطريق الملك فهد، وبعض الشوارع الفرعية احيانا التي كان يستهدف من ورائها مطاردة بعض السيارات التي لم تعره اهتماماً,, ولكنه في النهاية دخل الى شارع التخصصي,.
***
ثانيا: أحمد
المكان: الرياض
الزمان: الخميس، بين الرابعة والنصف والرابعة وخمسين دقيقة,.
أحمد هو رب لأسرة تتكون من تسعة أشخاص، زوجته وابنائه السبعة، أكبرهم في السنة الأولى من الكلية التقنية، وأصغرهم طفل له أشهر استقبله أثناء امتحانات الفصل الثاني من العام الماضي,, وبينهما خمس بنات في المرحلة الابتدائية والمتوسطة,, يعمل احمد بالمحكمة في وظيفة بسيطة يكسب منها القليل ولكن له بعض الأعمال الخاصة الاخرى البسيطة التي تضيف الى دخله قليلا بما يكاد يغطي الحدود الدنى لمعيشته واسرته,, ورغم ذلك فهو سعيد مع ابنائه وبناته,, ولأحمد الذي يبلغ من العمر اثنين وخمسين عاما امه التي ترقد في المستشفى التخصصي حيث تمت احالتها هناك لظروفها الصحية الصعبة,, وكان احمد يقوم بزيارة والدته كل يوم قاطعا بسيارته حوالي خمسين كيلو ذهابا وجيئة,, ومنذ دخول والدته المستشفى وهو يشعر بألم شديد يعتصره وهو يرى والدته في وضعها الصحي الصعب الذي أخذ يقلقه كثيرا,, وكان أحمد قد وعد أبناءه وزوجته ان يأخذهم هذا المساء الى حديقة المكتبة,, وهذا هو الذي جعله يعرج بسيارته الى ناحية العليا ليتعرف على المكان ويعرف المواعيد واجراءات الدخول، حيث لم يحصل ان ذهب الى هناك من قبل,, ومن لا يعرف احمد فهو ذا شخصية وقورة يقود سيارته باتزان وبحذر شديد، ولم يعرف السرعة في حياته، فهو حريص كل الحرص ان يعطي الطريق حقه، ولم يحدث ان اخطأ على احد او تجاوز سيارة لم يكن من المفروض ان يتجاوزها,, يقود بأمان,, وأكثر ما كان يخافه دائما لحظات تبدل ألوان إشارات المرور,, فكان يخشى حوادث الإشارات التي كان يعتقد بأنها مميتة,, وبعد ان فرغ احمد من المرور على حديقة المكتبة وتعرف على طريقها، أخذ يشق طريقه الى المستشفى، ولكن بعد ان تجول في المنطقة عبر شارع العليا العام متجها الى الشمال,, ثم دخل شارع العروبة,, متجها الى الغرب حيث يريد ان يتحول الى شارع التخصصي,, وبعد حوالي دقيقتين دخل إلى شارع التخصصي متجها إلى الجنوب,.
***
ثالثا: خالد وأحمد
المكان: شارع التخصصي
الزمان: الدقائق الأخيرة في حياة خالد وأحمد,.
كان خالد قد وصل إلى نهاية شارع التخصصي واقبل عائدا متجها إلى الشمال مرة اخرى,, إلا انه توقف في محطة وقود ليشتري بعض الاحتياجات وبما فيها علبة سجاير,, ولم يعرف انه قد اشترى آخر علبة سجاير له، وكان يدخن سيجارته الأخيرة,, وخالد من عشاق الفن ولديه أعداد كبيرة من كاستات نجوم مطربي الخليج، وكان يفضل دائما ان يستمع الى المطربة أحلام وفنانه المفضل راشد الماجد,, كما انه يستخدم جواله طيلة تواجده خلف مقعد القيادة,, فتراه يحادث صديقا ويرد على مكالمة صديق آخر,, ويضحك ويلعب ويطيش بسيارته التي تتوارى عن اليمين وعن الشمال حتى في أضيق الطرق وفي أحرج اوقات القيادة,.
أما أحمد فكان يشق طريقه بهدوء وحذر شديد كعادته في طريق التخصصي متجها الى المستشفى الذي يريد هذا اليوم ان يقضي فيه وقتا اطول مع والدته، حيث يسمح له المستشفى بذلك بحكم وضعه وعلاقته بوالدته، فهو الوحيد الذي يزورها ويعولها في هذه الدنيا,, كان احمد يستمع في الإذاعات إلى الموجز الختامي لنشرة أخبار في إحدى الإذاعات وكان ذلك تقريبا عند الساعة الرابعة وتسعة واربعين دقيقة,, وأكثر ما أزعجه في هذه الاخبار الحديث عن وضع القدس وكيف ان إسرائيل تماطل في عودة هذه الأرض المقدسة الى المسلمين,, وتمنى احمد في لحظتها ان تعود القدس ويكتب له الله الصلاة فيها,, واستمر احمد في السير,, حتى وصل الى تقاطع شارع الأمير محمد بن عبدالعزيز التحلية ,, وهناك توقف أمام الإشارة وصادف ان تكون سيارته في مقدمة السيارات مع عدد من السيارات الأخرى,.
ويواصل خالد من الناحية الاخرى سيره في الاتجاه الآخر,, ومن المخاطر التي عادة ما يجازف بها خالد سرعته التي يضاعفها عند التحول الى الإشارة الصفراء، والتي يفترض عندها التمهل للتوقف,, وافساح المجال للسيارات من الجهات الاخرى، لكنه يزيد من سرعته الى درجة مخيفة جدا يعرض فيها حياته وحياة الآخرين للخطر,.
وعند الساعة الرابعة وخمسين دقيقة,, كان خالد يسير بتهوره المعهود بنيته في قطع الإشارة التي كانت قد تحولت الى حمراء,, ولكنه في لحظة خشي ان تواجهه سيارات أخرى من الجوانب فحاول ايقاف سيارته ولكنه لم يتمكن مما ادى الى انقلاب سريع لسيارته واتجاهها الحتمي الى السيارات المقابلة التي لم تتحرك بعد رغم كون الإشارة أمامها خضراء,, فاصطدم بسيارة أحمد الذي لم يكن ليتحرك بعد من موقعه وكان اصطداما عنيفا جدا ادى الى تلاحم السيارتين ببعضهما البعض,, وتلاشي من فيها,, وسمع دوي الاصطدام من مسافات بعيدة,, وكان خالد قد فارق الحياة في موقع الحادث,, وأحمد أثناء نقله الى المستشفى,.
ويرن جرس التليفون في منزل أسرة خالد عند الساعة السادسة والنصف، وتلتقط أمه الاتصال الذي كان من إدارة المرور معلمها ان ابنها قد وقع له حادث مؤسف,, انهارت الأم,, وجاء الأب والاخوان والاخوات,, ولم يصدقوا ما حدث فلن يعود إليهم خالد,, لقد مات,.
أما أحمد,, فإن والدته التي ترقد في المستشفى كانت تنتظره في ذلك المساء كعادتها,, وكلما فتح الباب عليها ظنت انه ابنها الوحيد أحمد,, وانتظرت طوال ذلك المساء، ولكنه لم يأت,, ولم ترغب الام ان تتصل ببيت ابنها خشية ان تشعره بتقصيره في عدم الزيارة هذا اليوم,, ولكنها في قرارة نفسها كانت تشعر بأن هذا اليوم لن يكون يوما عاديا في حياتها,, لأنه ولأول مرة منذ اكثر من شهر يتخلف ابنها عن زيارتها,.
وفجأة يرن جرس التليفون في غرفتها,, لتعلمها زوجة ابنها وهي تبكي ان احمد قد توفاه الله في حادث وهو في طريقه اليها عصر هذا اليوم,, لقد قتل خالد أحمد,, نعم لقد قتل خالد أحمد,.
|