أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 16th September,2000العدد:10215الطبعةالاولـيالسبت 18 ,جمادى الثانية 1421

الثقافية

وترجَّل الفارس
د: عبدالعزيز الخويطر
** ومات أستاذنا الكبير الشيخ الجليل حمد بن محمد الجاسر، وماموته موت واحد، ولكنه موت جيل كد وكدح وأنجز، وضحى وأكثر.
موت حمد الجاسر شمس علم كسفت، وقمر بحث خسف وعمود أدب هوى، ومصباح فضل انطفأ, بموته فقد الميدان فارساً كان يصول بسيفه وصولجانه، لم يدانه أحد في حقول الفكر التي اختارها، ولم يجاره كاتب في السباق الذي دخل حلبته، بدأ سيره في رياض العلم منذ سنين، قبل أن يولد بعض أحبته وجلسائه، وأخذ يطوي بساط العلم والبحث والإنتاج خطوة خطوة حتى تجمع له ما أراد مما يبني صرحا علميا شامخا، تكل الرقاب دون أن تصل بنظرها إلى قمته.
استجاب حمد الجاسر لنداء ربه، استجاب بعد أن أضنى السنين قراءةً وبحثاً، وتنقيباً ، وسفراً، وتوثيقاً، وكفاحاً، وتأليفاً، وتحقيقاً، ونقداً، وتوجيهاً، وتعليقاً، ودرساً، وتمحيصا.
* * *
خدم أبو محمد العلوم التي كانت أقرب إلى قلبه، وأولى برعايته، فلم يترك فيها زاوية إلا أطل في خباياها، ولا ميدانا إلا مسح جوانبه، ولا درجا الا ارتقاه، ولا غامضا إلا جلاه، ولا خفيا إلا كشف عنه غطاءه وأبانه، ولا مبهما إلا أنار ديجوره.
كان رحمه الله لايرضى بالوقوف عند القشر، ولا يقنعه الظاهر، كان أسكنه الله فسيح جناته يغوص إلى اللب، ويتعمق في المخبر.
كان يأخذ منه البحث والتنقيب عن أمر صغير أشهرا أو سنين، وقد يحتاج لتحقيقه إلى رحلات مضنيات، إلى بلدان بعيدة، لا يقف في وجهه عائق، ولايمنعه تعب، ولا تؤسهِ صعوبة، يناور ويحاور ويحتال، حتى يصل إلى الحقيقة ولايهدأ باله، وتطمئن نفسه، حتى يكتمل ما بدأه، حيئنذ، فقط، يلقي عصا التسيار، ولكن لوهلة، ثم يبدأ بحثا جديداً مضنيا ، يعطيه كل قوته، وكأنه البحث الفريد في حياته.
أصبحت خبرته لاحدد لها، عرف مظان العلم، ورجاله، وعرف الجاد منهم في البحث والتنقيب، فوصل سببه بسببه، أول اهتمامه كان بالجغرافيا والمواقع، فعرفه الجغرافيون ورجال الآثار، وصار على رأسهم، وعرفه المؤرخون وصار أمامهم وإمامهم، وعرفه محققو الأنساب، إذ جاء حامل العلم في سريتهم، وعرفه الأدباء لأنه تقدم سربهم في خوض بحر هذا العلم الواسع العميق، عرفه كتاب التراجم إذ وجدوه قدوة في الميدان.
رأى نقصا في بعض جوانب ثقافتنا، وحياتنا الفكرية، فأكمل ما استطاع في هذا الجانب، ووضع اللبنة ليقتدى بخطته ومنهاجه في هذا الحقل الواسع، المترامي الأطراف، وماكتابه عن الخيل إلا نموذج لهذه الفطنة والالتفاتة، وهذا جانب من حظه حظ البحث أن كان الملتفت إليه الشيخ حمد الجاسر، بغزير علمه، وسعة اطلاعه، وبُعد حماسه، وصحة منهجه، وحسن معالجته وما هذا هو العمل الوحيد للاقتداء، فكثير من حاملي أعلى الشهادات اليوم، في بلادنا، وخارجها، هم من تلاميذه ويفاخرون بذلك، ويعلنونه بصوت جهوري على رؤوس الأشهاد، وأنا أولهم.
* * *
كانت الغيرة عند الشيخ حمد منطلقة أحيانا لما يتصدى له وكأنه عود ند لمسته جمرة ، ففاح عطره، غيرته على وطنه العربي، وكانت له في حماية حقوقه صولات وجولات، في حد العلوم التي يرعى حقولها، وغيرته على اللغة العربية، وله في هذا كفاح لحمايتها، وإضاءات لتوسعتها وتصحيحها، وغيرته على العلم واستقامته، وله في هذا نقد وتصحيح وتحقيق، وغيرته على ما يعتقده، ويؤمن به، وله في هذا التفات جاد وملح، لا يتهاون ولا يتراخى حياله.
سوف يفتقد هذا الرجل المبجل أهله وأبناؤه وأقرباؤه، سوف يفتقده عارفوه وأصدقاؤه، سوف يفتقده من عمل معه أو عنده، سوف يبكيه ناديه والمترددون عليه فيه، سوف يبكيه القلم ، والكتاب، والمخطوط والمطبوع.
* * *
سوف لا تراه المجامع العلمية بعد اليوم، وقد كان فارساً في ميادينها، سوف لا تراه النوادي الأدبية والعلمية، وكان من روادها عندما كانت قوة جسمه تساعده على ذلك، سوف تفتقده المجلات والصحف، إذ سوف لا تطل منها مقالاته، ومقابلاته، وقد كانت عامرة بما يكتب وما ينطق، وسوف تفتقده آذاننا، وقد كان يشنفها بالمفيد الجديد المبهج، وسوف تفتقده عيوننا وقد تعودت على بشاشة وجهه، وحسن استقباله.
أجل سوف تفتقد رجلا كان إذا هم أنجز، وإذا التفت أكمل ، وإذا تصدى وفى، وإذا قال شنّف وإذا كتب شفى، همته في العلم قعساء، وسيره جد ونظرته فاحصة، واستقصاؤه عميق، وتحقيقه ملح، ودأبه حثيث، لا يستسلم لصعوبة، ولا يحني رأسه لعائق، ولا يتساهل في حق، لا يستبعد بعيداً، ولا يشح على البحث بمال أو جهد ، في كل بحر، اجتذبه، له فيه شبكة صيد، وفي كل شبكة له صيد ثمين، تجتذبه عليه رحمة الله كلمة، ويشده خبر، وتوقفه ملاحظة، فلا يستريح حتى يتابع هذه، ويستقصي عن تلك ، يسأل وينقب، ولا يمل حتى يبلغ الهدف، ملأت كتبه الرفوف، وحظيت بمقالاته المجلات وأعمدة الصحف، واستقبله، أو زاره، فطاحل العلماء والكتاب، فأفاد منهم، وأفادوا منه.
* * *
في مظان العلم ترى الوجوه إليه متطلعة، ربما سوف ينطق متعلقة، أعطاه الله سبحانه وتعالى ذاكرة قوية واعية، ساعدته على التقصي والمقارنة، وسهلت عليه البحث، وأنجدته عند المباحثة والنقاش، وأن يخزن في ذهنه، دون تعمد، الصغيرة والكبيرة.
كان الشيخ حمد رحمه الله رحمة واسعة حفيا باللغة العربية ومفرداتها، وأساليبها، وتراكيبها، واقفا ديدبانا دون دخول أي غريب على حماها، وأي متسلل إلى روضها الشريف، فالكلمة الأجنبية ، تندس في الجملة، يراها عقربا قد شالت شوكتها، وحية أبرزت نابها.
يرفع هراوته، فيقضي عليها، ويحل ابنة عرب مكانها، يستقيها من ملكته في اللغة أو في المعاجم، وتواضعه لا يجعله يستنكف أن يستشير من أجلها، فتجده لا يفتأ يسأل عن مرامي الكلمة الغريبة، حتى يلبس الكلمة العريبة ثوبا ضافيا يليق بها ممثلة للفكر العربي.
وحفاوته لا تقف هنا بل تتعداه إلى دقة تحرير المواقع، وتدقيق الأنساب، وكأن هذه كلها قد وضعت في حماه، وأصبح وصيا عليها، فلا يهدأ باله حتى يصل إلى كنه الحقيقة ويعلنه.
* * *
أما كيف بدأ الطريق ليقف على المنبر، فكان أول خطوة على هذا الطريق أن بدأ ملاحظاته على الكُتَّاب، وكان في الوقت نفسه يقرأ ويخزن علمه، ولم يتخلل انقطاعه للعلم إلا شعوره أحيانا أن سكوته على خطأ أديب، أو نقص كاتب، قد يعمق الخطأ، ولهذا يخرج من صومعته، ويدلي برأيه، وفوجئ الذين يقولون عنه حينئذ أنه يهدم، وليس له بناء، ودهشوا عندما أزاح الستار عن المخزون، وتتالت كتب تترى، فبهرت وأدهشت، وامتشق القلم للتأليف، فجاء سيله فيضا كأنه كان وراء سد فتحت أبوابه، وجاء ماؤه مزبداً هادراً ، فأحيا حقلا هنا، وحقلا هناك، واستوى النبت، وتفتح الزهر، وتبين عنه أن وراء الأكمة ما وراءها.
* * *
نعم ثم نعم، نتلفت حولنا مذهولين، لا نصدق أننا فقدنا بهجة النادي، وغريد الدوح، وفارس الميدان، ومصباح الإضاءة، ولسان الحق، وصولجان الحمية، سوف نذهل عن أن نصدق أن أستاذنا الجليل حمد بن محمد الجاسر مات، سوف نذهل إلى أن يعود إلينا رشدنا، فنذكر، وحق لنا ألا ننسى، أن كل شيء فان، ولا يبقى إلا وجه ربنا، ذي الجلال والإكرام، وأننا كلنا ميتون، وللطريق الذي سلكه الشيخ حمد، ومن سبقه، سالكون ، وإنا لله وإنا إليه راجعون,رحم الله الفقيد الغالي، وأسكنه فسيح جناته، وأنزل عليه شآبيب رحمته، ووابل غفرانه، وجعل ما قدم في موازين حسناته، وشاهدا له على حسن العمل، وسلامة النية، وصواب القصد، وقبل منه ما بذل من جهد، وجعل ما أمد من عمره دليل رضى منه عليه، وألهم أهله وفاقديه السلوّ والاحتساب إنه نعم الجواد المجيب، وصلى الله على محمد.

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved