| الثقافية
أكتب وداعك والقلم يضطرب في يدي، والقلب مكلوم والدموع غزار، ولكن الخطب اكبر من القلم والدموع لا توفيك حقك، ولا استطيع ردها، فأنا أبكي أباً لقيت من عطفه ورعايته وتشجيعه علمياً، والاستفادة من علمه تأليفاً ومجالسة ما لا استطيع الوفاء ببعضه.
وداعاً علامة الجزيرة في لحظة ذقت فيها مرارة لم أذقها من قبل ذهبت بكل متعة جلساتك يوم الخميس، فقد جاءني النعي الساعة العاشرة صباح الخميس 16/6/1421ه، وقد اعتدت أن أكون على مدى سنوات في مثل هذا الوقت من ضحى كل خميس في مجلسك بين احبائك وتلاميذك وزوارك تفيض عليهم من علمك الغزير، ويسمعون منك ما تسرّي به عنهم بالرغم من آلامك، حتى عندما اقعدك المرض تأتي على عربتك تغالب الألم للجلوس معهم لمدة نصف ساعة ثم تعتذر بأنك لا تستطيع الاستمرار ونحن نرى معاناتك ولكن حبك لهم جعلك تتظاهر بالصحة.
وداعاً شيخنا حمد الجاسر من كل من تتلمذ عليك في فصول المدارس أو من بطون مؤلفاتك أو من رسائلك أو من مجالسك.
وداعاً لقراء مجلة العرب وكتابها، وهي وهم ثكلى بفقدك بعد 35 عاماً من العطاء الذي تحدى كل الصعاب.
وداعاً من مجامع اللغة العربية في القاهرة وعمّان ودمشق وبغداد والهند، ومن معجماتها التي صدرت والتي لم تصدر.
وداعاً من أُحُد وثهلان وأجأ وسلمى ومن كل سهل وجبل ووادٍ ومدينة وقرية وقبيلة وأسرة أعدت لها العناية بتاريخها بعد قرون من الجحود والانصراف.
دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له هوى له أحدٌ وانهدّ ثهلان |
وداعا من قمم السروات ونخيل وهجر وكثبان نجد ووديانها وشواطئ خليج العرب وبحرها والبحر الأحمر التي اعدت العناية بها، بل فقت مجد ياقوت الحموي والبكري والهجري والهمداني ولغدة، ولو عاد هؤلاء لاتخذوك لهم إماماً فقد تركت مكتبة في تاريخ الجزيرة لم تكن لأحد قبلك.
وداعاً لك من لغة الضاد، وقد بقيت العمر كله تنافح عنها، وتحارب من يعتدي عليها لا تأخذك في ذلك لومة لائم مهما بلغ من الوجاهة وترد كل من يهدمها باسم الشعر الشعبي أو اللهجة الوطنية أو لغة الصحافة.
وداعاً شيخنا حمد الجاسر من مكة المكرمة والمدينة المنورة وقد عنيت بتاريخهما وبرحلات الرحالة إليهما، وبنشر كتب من ألف عنهما، ووجهت الباحثين لنشر مؤلفات السابقين، وشاركت بالرأي والتقويم لما ألف عنهما وشجعت كل باحث في تاريخهما بإسداء النصح أو إعطاء المعلومة.
وداعاً من كل باحث في كل مراكز البحوث في العالم يؤم بيتك او يراسلك طالباً للمساعدة في بحثه أو إمداده بمصدر أو وثيقة أو معلومة من مخزونك العلمي الذي فقدناه.
وداعاً شيخ الصحافة من كل حرف خطه قلمك، وكل تلميذ يدين لك بالفضل وكل قارئ يعرف فضلك في إنشاء الصحافة والمطابع وتنويره في زمن كانت تضرب فيه الأمية بأطنابها.
وداعاً من كل صديق سيسفح الدمع عليك ليس في الجزيرة العربية فحسب، بل في العالم العربي، وحسبك ان الدموع ستكون دموع العلماء وقادة الرأي والفكر.
وداعاً من خزائن المخطوطات في كل مكتبات العالم، ووداعاً من كل مخطوطة كانت تعدك مَرَجها للخروج للنور، ووداعاً لك من مكتبتك مكتبة العرب التي أشعر أنها أكثر الباكين.
ووداعاً لك من كل صاحب رأي كان يراك مثالاً في الرأي الحر النزيه الذي يصدع بالحق من أجل الصالح العام في عالم العروبة والإسلام ولا يتراجع عن رأيه لأنه ليس رأياً لمصلحة خاصة أو جرياً وراء حطام الدنيا يتوقف إذا انهمر عليه المال.
ووداعاً من مؤلفين كانوا يجدون في مراجعتك لمؤلفاتهم ونشر ملاحظاتهم حولها نعم المعين لهم للاقتراب من الكمال وكانوا يقابلونك باسمين لما يعرفونه فيكم من صدق النصح.
وداعاً من كل جائزة نلتها ومن كل وسام منحته ومن كل مؤسسة علمية كرمتك وعرفت فضلك.
وداعاً من كل مجلة او دورية كانت تتحف قراءها ببحوثك ومقالاتك التي لم تجانب الدقة والعلمية حتى في أشد لحظات المرض.
وداعاً لتواضعك وحدبك على محبيك ووداعاً لنفسك الكبيرة بفضائلها التي كانت تكرر دائماً:
عليك بالنفس فاستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان |
وداعاً لكل فضائلك في الدين والخلق والعلم ووداعاً من أم محمد التي كانت نعم الساعد لك في منزلك وجهودك العلمية، ونعم الراعية لك في هرمك ومرضك، ووداعاً من ابنك البار معن الذي وقف وقته وصحته للوقوف معك في رحلة مرضك الطويلة، ووداعاً من بنياتك الثكلى بفقدك، ومن احفادك الذين فقدوا حنانك، ومن كل ابنائك طلاب العلم الذين لا أبالغ إذا قلت: إن حزنهم لن يقل عن حزن معن ووالدته، وأخواته وأصهارك وإخوتك وبني عمك القريب منهم والبعيد.
وداعاً مقروناً بالدموع الحرّى والدعاء لرب غفور رحيم ان يسكنك فسيح جناته ويحيل قبرك روضة من رياض الجنة.
|
|
|
|
|