| الثقافية
قضى الحق سبحانه وتعالى بالموت على جميع خلقه صغيرهم وكبيرهم عالمهم وجاهلهم ذكرهم وأنثاهم مسلمهم وكافرهم فالموت لا مفر منه ولا محيص عنه فالحق سبحانه قد ساوى بين البرية في ورود حوض المنية، والموت مشروع لابد مورود، وكلنا وان طال المدى مفقود، وبين الحين والآخر يأخذ الموت عزيزاً علينا فنرضى بقدر الله، فقضاؤه ماض، وهو عدل قاض، يولى ويبتلي، ويسلب ويعطي له الخلق وفعله الحق فأمر الله لا يقبل الا بالرضا والصبر على ما قضى ومضى.
في الصباح الباكر من يوم أمس الخميس 16/6/1421ه هاتفني أخي العزيز معن بن حمد الجاسر من الولايات المتحدة الأمريكية بصوت متهدج ومتحشرج فأدركت ان في هذه المهاتفة خطباً جللاً واذا به وهو المفجوع والمكلوم بوفاة أعز الناس اليه وأقربهم اليه يعزيني ويواسيني بوفاة والده يرحمه الله والد الجميع فأحسست بدمعة تنسكب من عيني وحشرجة في حلقي وانقباض في صدري وقد خصني كما قال بهذه المهاتفة لعلمه بمكانة الشيخ حمد في نفسي وللعلاقة الحميمة التي تربطني به كعلاقة الابن بأبيه تلك العلاقة التي توطدت أكثر في قاهرة المعز حينما كان الشيخ رحمه الله يتردد على القاهرة للمشاركة في دورات مجمع اللغة العربية والذي كان يحرص كثيرا على حضور دوراته والمشاركة في اجتماعاته الدورية وذلك من منطلق حرصه على لغة الضاد: لغة القرآن الكريم رغم اعتلال صحته وضعف بصره ومع ذلك لم يكن يتخلف عن أي اجتماع من اجتماعات المجمع أقول من خلال زياراته للقاهرة لمثل تلك المناسبات كنت خلالها أعمل ملحقا ثقافيا هناك وكنت أسعد كثيرا باستقبال الشيخ الوالد وتوديعه عند وصوله وعند سفره، وكنت أتردد عليه في منزله الكائن في الجيزة كل يوم وكل ليلة بصحبة كريمة من الأستاذ الأديب سعد بن عبدالرحمن البواردي فكنت استفيد منهما في طروحاتهما ومناقشاتهما وبعد عودتي من القاهرة كنت أحرص ما يكون على حضور ضحوية يوم الخميس من كل أسبوع في منزله العامر في حي الورود حيث يؤم تلك الضحوية علماء أفاضل وأساتذة كرام وأدباء أجلاء يجلسون بين يديه لينعموا بجليل علمه وكرم أخلاقه ورقة أبوته وهي طباع لا تفارقه.
عندما أجلس عند شيخي بل والدي الروحي الشيخ حمد يرحمه الله أحس أن اللحظات تهرب من زمني كما يهرب الماء من باسط كفيه الى الماء ليلغ فاه وما هو ببالغة,, انني أسعد وأستمتع كما يسعد غيري ويستمتع حينما يأخذ يروي ذكرياته ورحلاته داخل المملكة وخارجها.
ان حمد الجاسر وهو أكبر من كل لقب وأكبر من كل ما ينعت به عندما يتحدث أو يكتب، فانه تاريخ يسجل ووطن ينطق وحب يتدفق,, أجل حب لهذه الأرض ومستأرضيها,ان في حياة العلامة حمد الجاسر تجربة بل تجارب مضيئة لكل الأجيال فلقد قدم يرحمه الله الى المكتبة العربية عشرات الكتب ومئات المقالات والتحقيقات,لقد وقف حياته ووهبها خدمة للعلم وإحياء التراث بتوثيقه وإثباته وديمومته في سجلات تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل,, فشيخنا علم من أعلام الجزيرة العربية بل والعالم العربي والاسلامي وقد منحه الله مواهب جمة منذ فجر حياته قل أن تتحقق لغيره مواهب فطرية وملكة ذهنية قوية وبعد نظر فهو بحق دائرة معارف وكوكب مضيء لا يغيب وان غاب!!
يقول الأستاذ الفاضل حمد القاضي ان في الشيخ حمد الجاسر خصالا كثيرة لا يعرفها الا من اقترب منه وقرب من روحه الطيبة وحيث اني من أولئك الذين سعدوا بالقرب منه ومن روحه الطيبة التي ذهبت الى بارئها فاني أؤيد الأستاذ حمد القاضي في ذلك فالشيخ يرحمه الله كان يحرص على أن يرد على كل خطاب أو كتاب يصل اليه أو مقال يكتب عنه مهما كان ذلك الخطاب أو ذلك المقال تقديرا منه لمن بعثه أو كتب عنه رغم وقته الثمين,وهو على تواضع يندر مثيله اذ يتضايق من الألقاب التي ينادى بها أو يوصف بها,, وأذكر اني حينما كتبت دراسة عن الوزير عبدالله الطريقي يرحمه الله وعرضت تلك الدراسة عليه شطب بقلمه كلمة علامة الجزيرة العربية مبررا ذلك بأنه لم يصل بعد الى ذلك اللقب!! انه تواضع الرجال الكبار من منا لا يعرف الشيخ حمد الجاسر ومن منا تخلو مكتبته من احدى مؤلفاته وهي التي خدمت الجزيرة العربية وتراثها وامكنتها التاريخية والجغرافية فلقد اثرى المعرفة الانسانية بما تركه من مؤلفات وتحقيقات ستخلده على مدى الدهر ستخلده مجلة العرب بصفته صاحبها، ورئيس تحريرها وكاتب معظم موادها وقد صدرت منها مجلدات ضخمة تعد من أهم المراجع التراثية للجزيرة العربية ولعلي لا آتي بجديد حينما أذكر بأن نشاط الشيخ يرحمه الله لم يقتصر على الرحلة والتحقيق والتأليف فحسب بل انه كان له نشاط واسع في مجال الصحافة والنشر فهو أول من أنشأ صحيفة في المنطقة الوسطى وهي صحيفة اليمامة 1372ه كما انه أول من أنشأ مطبعة في مدينة الرياض وأول من أنشأ دارا للبحث والنشر والترجمة هي دار اليمامة وأول من أنشأ مؤسسة اليمامة الصحفية وهو الذي أصدر مجلة العرب منذ ما ينيف عن اثنين وثلاثين عاما حيث تعنى عناية خاصة بالأبحاث التاريخية والجغرافية التي تتعلق بالجزيرة العربية.
لقد قضى الشيخ حمد الجاسر أكثر من تسعين عاما بين التعلم والتدريس والقضاء والبحث والتحقيق حيث انه ولد عام 1328ه على وجه التقريب في قرية البرود بمنطقة نجد وحاز على الكثير من الجوائز التقديرية من داخل المملكة وخارجها فلقد حاز على جائزة الدولة التقديرية في الأدب عام 1403ه وتم تكريمه من قبل قادة مجلس التعاون لدول الخليج العربي في القمة العاشرة لدول المجلس بسلطنة عمان في جمادى الأولى عام 1410ه وفي عام 1416ه صدر عنه سفر تكريم من مكتبة الملك فهد الوطنية يؤرخ لحياته وهو عبارة عن سيرة ببليوجرافية، وفي نفس العام 1416ه فاز بجائزة سلطان العويس الثقافية للانجاز العلمي والثقافي,كما فاز أيضا وبنفس العام 1416ه بجائزة الملك فيصل العالمية فرع الأدب العربي كما نال الدكتواره الفخرية من جامعة الملك سعود عام 1417ه، كما تم تكريمه من قبل المهرجان الوطني للتراث والثقافة الجنادرية عام 1418ه.
لقد كان يرحمه الله أمة في رجل ورجلاً في أمة
هو أمة جمعت بمفرده ولرب جمع جاء منفردا |
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ,رحم الله شيخنا رحمة واسعة وأمطر عليه شآبيب رحمته وغفرانه وجزاه الله عما قدم خير الجزاء وأحسن الله عزاء أهله وذويه ومحبيه وأخص رفيقة دربه وشريكة حياته مرها وحلوها العمة الفاضلة أم محمد والى الأخ الحبيب معن بن حمد الجاسر وكريمات الفقيد الدكتورة منى وسلوى والدكتورة هند ومي وأحفاده وعائلة الجاسر وكل محب للشيخ إنا لله وإنا إليه راجعون .
|
|
|
|
|