| مقـالات
الموت يفرّق بين الأحبة، ويدخل كل بيت، ووقعه على النفوس أليم، واقتضت حكمة الله البالغة أن يذوق مرارته كل إنسان، ويتجرّع غصّته كل بني آدم، ولذا كانت أوامر دين الإسلام، تحثّ على الصبر، وقوّة التّحمل، حتى تهدأ النفوس، وتتحمّل وطأة هذه المصيبة، عندما تقع، فكان من تسلية النفس أن قرن الأمر بالثواب، ووعد الصابر الأجر الجزيل، عند الله يوم القيامة,.
والأبناء الذين جعلهم الله قرة الحياة الدنيا وزينتها، هم من أشدّ من تقع وطأة موتهم على الإنسان، لأنهم امتداد الفرع من الأصل، ولأنهم بهاء الحياة وفخرها، إذا اصلحهم الله، وبهم يصل الأجر بعد الوفاة لوالديهم,, يقول سبحانه: المال والبنون زينة الحياة الدنيا (الكهف 46).
وإذا كان الولد محبوباً عند الإنسان، ومرغوباً فيه، حيث يحرص كل فرد، من ذكر وأنثى على أن يكون له أولاد، يمتدّ بهم أصله، وتزدهر بهم أمامه الحياة الدنيا، لأن الأولاد من زينتها، ويعالج من تأخر مجيء الأولاد له، حيث يهفو قلبه اليهم، وترتاح نفسه عند الحصول عليهم، مع أن تربيتهم وتعليمهم أمانة كبيرة، بل قد حكى الله عن نبيّه زكريا، وغيره من الأنبياء رغبتهم في الولد، فقال تعالى: وزكريا إذ نادى ربه، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين (الأنبياء 89)، فاستجاب الله دعاءه، ووهبه الله غلاماً رغم أن امرأته كانت عاقراً، آية منه سبحانه، فقال سبحانه: يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا (مريم 7).
ولوجود هذه الرغبة، فإن كثيراً من أهل العلم، الذين أدركوا عمق النصوص الشرعيّة، وما جاء في الصّبر على فقد الأبناء، كانوا يفضّلون أن يموتوا قبلهم، ليحتسبوهم عند الله أجراً مدّخرا، يتحملون غصّته في الدنيا، وألم الإصابة بفقده، تصبّراً وتحمّلاً، رجاء الثواب من الله، وكونه في ميزان الحسنات يوم المعاد استناداً لما بلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ووقوفاً عند النصّ الشرعي الذي يحمل البشارة، ورحم الله من انتهى إلى ما سمع.
فقد جاء عن جماعة من العلماء والعبّاد، تمنّى تقديم الأولاد، لما يعلمون في ذلك، للمصاب من أجر جزيل عند الله، ومضاعفة للثواب، قال أبو الأحوص: عوف بن مالك الجشميّ قال: دخلنا على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وعنده بنون له ثلاثة غلمان، كأنهم الدنانير حسناً، فجعلنا نعجب من حسنهم، فقال لنا: كأنكم تغبطوني بهم، قلنا: أي والله، لمثل هؤلاء يغبط المرء المسلم، فرفع رأسه إلى سقف بيت له صغير، قد عشّش فيه خطّاف وباض، فقال: والذي نفسي بيده، لأن أكون قد نفضت يدي عن تراب قبورهم، أحب إليَّ من أن يسقط عشّ هذا الخطاف وينكسر بيضه وما ذلك من بغضه لهم ولكنه يريد أجرهم عند الله بالصبر على ذلك,, لما جاء في مثل هذا الحديث، الذي روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة نودي في أطفال المسلمين، أن اخرجوا من قبوركم، فيخرجون من قبورهم، ثم ينادى فيهم: ان امضوا إلى الجنة زمرا، فيقولون: يا ربنا ووالدينا معنا؟ فيقول في الرابعة: ووالديكم معكم، فيثب كل طفل إلى أبويه، فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنّة، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم في بيوتكم خرجه أبو نعيم، من طريق الطبراني.
ومستندهم في هذا الأمر الشرعي، الذي يحرصون على التسابق التطبيقي فيه: اعتقاداً وعملاً، تقديماً للآجلة عن العاجلة، وإيثاراً لجزاء الله يوم القيامة، على نفع الدنيا، فقد أخرج الترمذيّ عن حماد بن سلمة عن أبي سنان يعني عيسى بن سليمان القسمليّ قال: دفنت ابني سناناً، وأبو طلحة الخولاني جالس على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فقال: ألا أبشرك يا أبا سنان، قلت بلى قال: حدثني الضحاك بن عبدالرحمن، ابن عزرب عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات ولد العبد قال الله عز وجل لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم,, فيقول سبحانه: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم,, فيقول سبحانه وهو أعلم: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد .
ولئن حصل الحزن، ودمعت العين، فإنما ذلك رحمة من الله، يخفف الألم، بفقد الحبيب الغالي على القلب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما مات ابنه ابراهيم حزن قلبه، ودمعت عيناه, وقال: القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون .
المنهيّ عنه هو الجزع والهلع، والنياحة وشقّ الجيوب، لأن هذا تسخّط وعدم رضا، بما قدّر الله، لأن الله يبتلي عباده بالخير والشرّ، لينظر سبحانه بماذا يبرز في أعمالهم، وما تتحمله نفوسهم، من استسلام لقدر الله وقضائه، وصبر واحتمال، لأن الصبر عند الصدمة الأولى، ولأن ذلك يقمع نزغات الشيطان، ويردّ وساوسه، وقد جاء الحث على الصبر في كتاب الله الكريم، قرابة مائة مرّة، ولعظم مكانته في عقيدة المسلم، الذي عرف الله فهانت مصيبته عليه، وأدرك مكانة الصبر، فاهتم به تطبيقاً واحتساباً، لقوله سبحانه: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (الزمر 10).
والصابر لا يزال مستضيئاً بنور الله وهدايته، ثابتاً على الصواب، مع ما في ذلك من حصول الأجر وجزيل الثواب، وأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، قدوة في الصبر والثبات، وعدم الجزع مما يصيبهم، فقد كان أيوب عليه السلام، كلما أصابته مصيبة، وهو ممن بيّن الله في القرآن بعضاً مما أصابه من الابتلاء، كان يقول: اللهم انت أخذت، وأنت أعطيت، بهما تبقى نفسي، أحمدك على حسن بلائك .
وأخبر صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة عن منزلة الصبر، فقد خرّج مسلم في صحيحه، في حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لاحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، وكان خيراً له، وإن اصابته ضراء صبر، وكان خيراً له .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يواسي أصحابه، عندما يتوفى لهم أولاد، ويعزِّيهم، ولذا كانت التعزية سنّة، لأنها تخفف وطأة الألم بفقد الصّفيّ، وتشعر المصاب بالتآخي الإسلاميّ، بين أبناء هذا الدين، والترابط، واهتمام بعضهم ببعض، كما أن في التعزية: الدعاء وذكر ما يسلي وترتاح إليه القلوب، وما يزيل كابوس عدو الله الشيطان ويزيل وساوسه.
لقد روي أن حسان بن كريب: كان لهم غلام منهم توفي بحمص، فوجد عليه أبوه أشدّ الوجد، فقال له حوشب: صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ليسليه ويخفف عنه ألم فقدان ابنه: ألا أخبرك ما سمعت من قول النبي صلى الله عليه وسلم، في مثل ابنك: ان رجلاً من أصحابه كان له ابن قد أدرك، فكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيه، ثم توفي فوجد عليه أبوه قريباً من ستة أيام، لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: مالي لا أرى فلاناً؟ قالوا: يا رسول الله، ان ابنه توفي فوجد عليه، فقال له صلى الله عليه وسلم لما رآه: أتحبّ أن ابنك الآن كأنشط الصبيان وأكيسه، أتحبّ أن ابنك لو أنه عندنا الله كهلاً، كأفضل الكهول وأسراه، أو يقال لك: ادخل الجنة بثواب ما أخذناه منك أخرجه أبو نعيم.
والمرأة أرقّ قلباً، وأكثر حزناً على فقدان ولدها، بل يزيد الألم اذا كان الولد وحيدها، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم يعطي أمّته دروساً في الموطن المناسب، كجرعات الدواء للمريض، فقد روي عن عبدالله بن يزيد عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ بلغه وفاة ابن لامرأة من الأنصار، فقام وقمنا، فلما رآها قال: ما هذا الجزع؟, قالت يا رسول الله، ما لي لا أجزع وأنا رقوب لا يعيش لي ولد؟, فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الرقوب التي يعيش لها ولدها، أما تحبين ان ترينه على باب الجنة، وهو يدعوك إليها؟ قالت: بلى، قال: كذلك لك في ذلك .
وعلماء السلف بحرصهم على احتساب أولادهم، عندما يتوفون قبلهم، ويفرحون بذلك، فإنما ذلك لأنهم سمعوا وامتثلوا: ورحم الله امرأً انتهى إلى ما سمع، فإن عظم الأجر، على قدر عظم المصيبة، والمصيبة بفقدان الأولاد من أعظم المصائب، لأنهم من أغلى ثمرات الدنيا، ويدركون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجه ابن ماجة، عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكرها، وان قدم عهدها، فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدد الله تبارك وتعالى، له عند ذلك مثل أجرها يوم أصيب ,, ورواه أحمد واللفظ له.
وقد فهم هذا، وأدرك عمق دلالة الآية الكريمة في المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون كثير من علماء التابعين، منهم عبدالله بن مطرف بن عبدالله بن الشخيّر، فقد قال بعد أن مات له ولد: والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل منّي، ثم وعد لي عليها، شربة ماء، لرأيتها لتلك الشربة أهلاً، فكيف بالصلاة والرحمة والهدى.
ورؤيا الرجل الصالح، إن كانت خيراً فهي بشارة، وان كانت غير ذلك فهي تخويف وانذار ليستعدّ ويأخذ الأهبة قبل فوات الأوان، فقد حدّث وكيع، قال: كان لابراهيم الحربيّ ابن، وكان له احدى عشرة سنة، قد حفظ القرآن، ولقّنه الفقه شيئاً كثيراً، قال: فمات، فجئت أعزيه فيه، فقال لي: كنت اشتهي موت ابني هذا، قال: فقلت يا أبا اسحق، انت عالم الدنيا، تقول هذا القول، في صبيّ قد أنجب، وحفظ القرآن، ولقّنته الحديث والفقه؟ قال: نعم,, رأيت في المنام كأن يوم القيامة قد قامت، وكان صبيان بأيديهم قلال فيها ماء، يستقبلون الناس، يسقونهم، وكان اليوم يوماً حاراً، شديداً حرّه، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء,, فنظر إليَّ وقال: ليس أنت أبي، فقلت: فأيش أنتم؟ فقال: نحن الصبيان، الذين متنا في دار الدنيا، وخلّفنا آباءنا، نستقبلهم فنسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته.
وعمر بن عبدالعزيز رحمه الله، الخليفة الأموي، الذي كان يسمى الخليفة الراشد الخامس، ضرب نموذجاً من النماذج التي تحتذى بالصبر، وقوة التحمل، وعدم الجزع، بل السرور عندما مات ابنه عبدالملك، فقد روى سفيان الثوري، قال: قال عمر بن عبدالعزيز، لابنه عبدالملك وهو مريض: كيف تجدك؟ قال في الموت، قال له: لأن تكون في ميزاني، أحب إليَّ من أن أكون في ميزانك، فقال له: يا أبت لان يكون ما تحبّ أحب إليَّ من أن يكون ما أحبّ,, قيل فلما مات ابنه عبدالملك، قال عمر: يا بنيّ لقد كنت في الدنيا كما قال الله جل ثناؤه المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، ولقد كنت أفضل زينتها، وإني لارجو ان تكون اليوم من الباقيات الصالحات، التي هي خير من الدنيا، وخير ثواباً، وخير أملا.
والله ما سرني أني دعوتك من جانب، فاجبتني,, ولما دفنه قام على قبره، فقال: مازلت مسروراً بك، منذ بشّرت بك، وما كنت قطّ أسرّ إليَّ منك اليوم,, ثم قال: اللهم اغفر لعبد الملك بن عمر، ولمن استغفر له.
وقد حرص علماء المسلمين، ان يجمعوا ما تيسر من علم مستمد من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، في تسلية أولي المصائب، وتذكيرهم عندما تهتزّ نفوسهم، بفقدان من هو عزيز لديهم، حتى يجدوا في ذلك عزاء عن المصيبة، وسلوة عن الجزع والتسخّط، حتى يكبر في قلوبهم قضاء الله وقدره، وحتى يحتسبوا عند الله أجر ما حلّ بهم، فيظهروا السرور في حالة الجزع، والرضا والقناعة، في ساعة الصّدمة الأولى، وكان ممن ألّف في هذا، الشيخ أبو حفص عمر بن أحمد الحلبي المتوفى عام 660ه وسماه: تبريد حرارة الأكباد في الصبر على فقد الأولاد، وابن ناصر الدمشقي المتوفى عام 842ه في كتابه: برد الأكباد عند فقد الأولاد وغيرهما.
* موقف أم:
جاء في كتاب برد الأكباد، عند فقد الأولاد، لابن ناصر الدمشقي: ان عبدالملك بن قريب الأصمعي قال: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدنا نحوها، فسلمنا، فإذا امرأة تردّ علينا السلام، قالت: ما أنتم؟ قلنا: قوم ضللنا الطريق، رأيناكم فانسنابكم، فقالت: يا هؤلاء، ولّوا وجوهكم عني، حتى اقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت إلينا مسحاً, فقالت: اجلسوا عليه، إلى أن يأتي ابني، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة، وتردها إلى أن رفعته مرة، فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ولدي، وراكبه فليس بولدي.
قال: فوقف الراكب عليها، وقال: يا أم عقيل، أعظم الله أجرك في عقيل ولدك، فقالت: ويحك مات ولدي,, قال: نعم,, قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل، فرمت به في البئر، فقالت: انزل وأقضي أمام القوم، ودفعت إليه كبشاً، فذبحه وأصلحه، وقرّب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا، وقالت: يا قوم، هل فيكم أحد يحسن من كتاب الله عز وجل شيئاً، قال الأصمعي: قلت: نعم؟ قالت: فاقرأ عليّ آيات اتعزّى بها عن ولدي، قلت: يقول الله تعالى: وبشر الصابرين، الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنّا لله وإنّا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون (البقرة 157) قالت: آلله انها لفي كتاب الله، هكذا,, قلت: الله هكذا في كتاب الله,, فقالت: السلام عليكم، ثم صفت أقدامها، وصلّت ركعات، ثم قالت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون وعند الله احتسب عقيلاً.
ثم قالت: اللهم اني فعلت ما أمرتني به، فانجز لي ما وعدتني، ولو بقي أحد لأحد، قال الأصمعي: فقلت في نفسي سوف تقول: لبقي ابني لحاجتي إليه، فقالت: لبقي محمد صلى الله عليه وسلم لحاجة أمته إليه، فخرجت وأنا أقول: ما رأيت أكمل منها، ولا أجزل، ذكرت ابنها بأحسن خصاله، وأجمل خلاله، رحمهما الله، ثم لما علمت ان الموت لا مدفع له، ولا محيص عنه، وان الجزع لا يجدي نفعاً، وأن البكاء لا يردّ هالكاً، رجعت إلى الصبر الجميل، واحتسبت ابنها عند الله عز وجل، ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة (ص 28 29).
|
|
|
|
|