الصمت ,, السكينة,, الهدوء، ثلاث كلمات مترادفة تعني البهجة والراحة النفسية, لكنها بالنسبة لي صمت القبور وسكون الموتى والهدوء الذي يسبق العاصفة,, هي السجن الذي اخترته لنفسي,,اخترت قضبانه قضيباً قضيباً، فهذا من الذهب الأصفر وذاك من الفضة وثالث من خشب الزان الأحمر,, حاولت أن أخدع نفسي,, علقت الستائر الوردية على جدران الزنزانة القاتمة, جاهدت طويلا في اختيار شريكي في الزنزانة، وتم الاختيار بعد اتفاق واقتناع.
التفت إليها أسترق نظرة من ذلك الجمال الأسطوري، وهي كالعادة تتصفح إحدى المجلات,, فتاة مثقفة وجميلة وشريكتي في الزنزانة,, لكنها في نفس الوقت جلادي, لم تكتف بجمالها بل وضعت من المساحيق ما صيّرها حورية، ومع ذلك فمحرم علي الاقتراب منها.
"هل يمكن أن نتناول الطعام الآن"؟
نظرت إلي وابتسمت بكل اشمئزاز ودفعت نحوي نفس الكتاب كما تفعل كل مرة,, كتاب تعلم الطبخ,, كل شخص يجب أن يخدم نفسه، هذا هو مبدؤها.
لم أعدأحتمل ذلك الصمت,, لا أسمع حولي سوى صدى أنفاسي,, هربت إلى الزنزانة الأخرى، غرفة النوم,, جوها الكئيب يخنق الأنفاس,, كل شيء كما هو ليلة الزفاف غير أن تلك الهالة الجميلة قد غطاها الغبار، حتى القفص الذهبي اختفت معالمه تحت شباك عنكبوت أعجبه ذلك الركن من غرفة النوم.
آه,, صديقي جميل كم اشتقت إليك, لن أنسى تلك الليلة حين جاء المهنئون محملين بالقبلات ليباركوا لي بمناسبة الزواج، وجاء جميل يحمل قفصاً مذهباً أدار عيون وقلوب كل من كان في الحفل, قال: بمناسبة دخولك القفص الذهبي الليلة، أهديك هذا القفص الذهبي , فهو ثريّ ويعشق المظاهر ويبذل أي شيء في سبيل أن يشدّ الأنظار إليه, كان ذلك قبل سنتين، اعتقدت أن حفل الزفاف والتهاني والتبريكات مما يضيع الوقت ويؤخرني عن الاجتماع بمن عشقها قلبي، ولم أكن ادري أني أسعى لحتفي، كما قال جميل :"دخلت القفص بقدميك".
كنت دائم الحيوية مشتعل النشاط لا يكاد يخبو صوت ضحكتي, كانوا يشبهونني بالبحر الهائج الذي تتلاطم أمواجه، لكنني اصطدمت بها,, وهي كشاطئ من الرمال الملساء، لا يزيده ارتطام الموج إلا نعومة, أحس أنني الآن كسير الجناح حبيس القفص،فحتى أصحابي حرمت منهم، فلقد مارست لعبة الصمت معي في وجودهم,, كنت أترجاها، اصرخ في وجهها، آمرها الا تقطع آخر أواصر الصلة بيني وبين أصدقائي ولكن دون جدوى, فلا واجب ضيافة يقدم لهم، ولا احترام أواجه به في وجودهم, فكم من مرة تحول صمتها لغضب وصراخ تغلفه بابتسامة استهتار في حضرتهم، فقط لأظهر بصورة الجبان أمامهم, فبأي وجه أقابلهم الآن.
أحس أنني أختنق بصمتها, يكاد يقتلني هذا الهدوء وتلك الوحدة,, الوحدة,, كم اشتقت لأيام العزوبية, سأهرب من هذا السجن,, فقط أريد أن أخرج من هذا القفص,, سأخرج,, سأقود سيارتي,, لا يهم إلى أين,, سأترك الخيار لغريزتي فعقلي يستطيع التفكير وقلبي مضرج بالجراح.
إلى متى سأستمر في السير دون هدف,, لكن أين أنا الآن، فليس هذا بالمكان الغريب،فكأني رأيته من قبل, سأوقف سيارتي الآن,, ربما هذه هي الخطوة الوحيدة التي أقوم بها اليوم بإرادتي.
وجدت نفسي وقد وصلت لمكان خارج المدينة,, خرجت من المركبة,, أحسست ببرودة الرمال تتناثر حول قدمي, خلعت نعليّ ولأول مرة منذ تزوجت أحس بطعم الحرية التي أفتقدها, كم أحب دفء الحرية وكم أكره برودة تلك الحورية, نظرت حولي، لا شىء سوى كثبان الرمال يغلفها ظلام الليل، ترسم صورة لمتع الماضي, استلقيت على أحد تلك الكثبان,, سرت برودة الليل في جسدي, النجوم ترقص في السماء تغني للقمر,, سمعت موسيقى الصمت,سكن كل شىء حتى الهواء وسمعت دقات قلبي تعلن يقظته من سباته الطويل, أحسنت الحورية عزف موسيقى الصمت في حياتي، لكن هذا الصمت يختلف فأنا الآن قائد الفرقة العازف الوحيد فيها، أطلق أوركسترا الصمت وأوقفها متى ما أردت, أغمضت عينيّ أحلم بحريتي,, رأيت فصول مأساتي ترتسم أمام ناظريّ, في الفصل الأول خلطت ألوان الحب بريشة الشباب صانعاً لوحة خيالية في قلب شاب طموح رأى مستقبله ورداً وريحانا, وفي الفصل الثاني دخلت السجن أحسبه جنة فإذا بالسجن سجن ولو كان في جنة, والآن سأكتب بعقلي لا بقلبي مشاهد الفصل الأخير من مأساتي، وسيسدل الستار بأمر مني.
دخلت المنزل، ورأيتها أمامي على نفس الأريكة, لم أعرها أي اهتمام، أما هي فلم تلتفت نحوي أو حتى تحس بدخولي, دلفت مباشرةً لغرفة النوم ورأيته أمامي، القفص الذهبي, حملته بين يدي، صرخت:"أنت السبب سأحرر نفسي منك ومن قيودك", خرجت به,, وقفت أمامها,, نظرت إليّ بهدوئها المعهود, ابتسمت ورفعت القفص عالياً فوق رأسي، ولأول مرة أرى سكينة عينيها تنقلب رعباً ويتصبب وجهها الثلجي عرقا, كدت أضربها به، لكنني انحنيت ورميت القفص على الجدار فتطايرت قطعه في كل اتجاه، صرخت الحورية من الخوف، "أنت مجنون".
ابتسمت وقلت: "أنا مجنون وأنت طالق".
تطلعت إليّ مشدوهة ترتعد فرائصها, ضج المكان بضحكي،فأخيرا رأيت الرعب في عينيها.
أخيرا تحررت من سجني، تحررت من القفص الذهبي.
تمت
عصام فهد الربيع |