| مقـالات
تعيش صحافة العالم وصحافتنا ليست استثناء من ذلك ظروفا تاريخية صعبة في هذا العصر,, الذي لم يعد للكلمة المقروءة ورقيا كبير اعتبار، او مثار اهتمام من الناس في كل أنحاء العالم,, وقد سجلت الاحصاءات أرقام تناقص تدريجي في توزيعات الصحافة في العالم,, وتحديدا منذ بداية الخمسينيات الميلادية أي منذ ظهور التلفزيون وتوزيع الصحافة آخذ في الانخفاض,, ولكن بداية السبيعنيات كانت محطة أخرى ساهمت في الانحدار التدريجي لأرقام توزيع الصحف في العالم،وذلك ربما نتيجة التوسع الكبير في استخدامات التلفزيون واستقطابه المتنامي لصناعات الترفيه الكبرى كالأفلام، والمسلسلات, والمباريات الرياضية وغيرها من البرامج الجماهيرية التي رسخت اعتمادية الناس على هذا الجهاز.
ثم جاءت قنبلة العصر مع بداية العقد التسعيني التي تمثلت في تطور وانتشار الأقمار الصناعية وبما سهلته من شبكات واسعة من محطات التلفزة الفضائية، فانتثرت هذه المحطات في كل الأنحاء,, وبات في مقدور المشاهد متابعة مئات المحطات، بل ربما ألوفا منها تأتيه من كل أصقاع الدنيا,, كما تزامن ذلك مع ظهور الإنترنت ودخوله كل دولة ومجتمع ومؤسسة، وربما كل منزل، وربما كل غرفة من غرف المنزل أيضا لتفي بالاحتياجات المتنوعة لأفراد الأسرة,.
وهكذا اخذت الوسائل الإلكترونية تنهش من جلد الصحافة، وتتقاسم التركة التاريخية التي تسيد عليها الإعلام المطبوع منذ منتصف القرن الخامس عشر باختراع المطبعة وبداية عصر الاتصال الجماهيري,, وبدأت الصحف تتراجع على مستويين رئيسيين هما : التوزيع والإعلان, وبخصوص التوزيع، فقد سجلت الاحصاءات أرقام الانخفاض في معظم الدول، وتحديدا خلال السنوات الماضية,, فعلى سبيل المثال تناقصت أرقام توزيع الصحف بين عام 1994 وعام 1998 بنسبة 2% في استراليا, 5% في نيوزيلندا، 5,3% في الولايات المتحدة الأمريكية، 5,5% في المملكة المتحدة، و 9% في كندا,, أما مقارنة الرقم الإجمالي للتوزيع اليومي للصحافة في الولايات المتحدة، فإننا نجد انها تصل إلى حوالي خمسة وخمسين مليون نسخة توزع يوميا لهذا العام مقابل أكثر من ثلاثة وستين مليون نسخة قبل حوالي العشر سنوات, وتناقصت أرقام توزيع المجلات في الولايات المتحدة بأكثر من ثلاثين مليون نسخة خلال العشر سنوات الماضية، حيث وصلت حاليا إلى اقل من مائة وثلاثين (130) مليون نسخة من المجلات.
أما عدد الصحف فقد سجلت تناقصا كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية وكذا في اثنتي عشرة دولة أخرى في العالم التي تقوم بتسجيل الوقائع الصحافية,, وعلى سبيل المثال، فقد وصلت الصحف اليومية الامريكية في هذا العام إلى حوالي ألف وخمسمائة صحيفة يومية، وذلك باختفاء حوالي مائتي صحيفة خلال العشر او الخمس عشرة سنة الماضية,, ومن الملفت للنظر ان اعداد الصحف المسائية في الولايات المتحدة الأمريكية يفوق الصحف الصباحية (700 صباحية، 800 مسائية).
أما بخصوص الإعلانات الصحافية، فقد شكلت انخفاضا في مدخولاتها خلال السنوات الماضية، وبالذات بعد دخول الإنترنت، وانتشار تداوله في الأوساط الجماهيرية,, وتقوم حاليا حرب تنافسية بين بيل جيتس الذي يمثل مايكروسوفت وبين كل الصحف في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم ايضا,, وخصوصا على الإعلانات المبوبة التي تمتلئ بها الصحف الأمريكية,, ومما أزعج جمعيات الناشرين والصحافيين المشروع الذي بدأه بيل جيتس بفتح مواقع على الإنترنت لاستقطاب الإعلانات المبوبة التي يصل دخلها السنوي للصحف الأمريكية فقط لخمسة عشر بليون دولار أمريكي، والتي كانت ملكا تاريخيا للصحف,, بل إن الصحف من القرن السادس عشر والسابع عشر قد انطلقت بمثل هذه الإعلانات في خطها نحو بناء تمويل ذاتي واستقلال مالي للكيانات الصحافية,, وقد أسمى جيتس هذه المواقع على الإنترنت ب SIDEWALK التي تعني المرور الجانبي، أو ربما في ترجمة اعتسافية بكافيهات الطريق,, ويتم على هذه الصفحات عرض إعلانات محلية لأفراد ومؤسسات عن منتجاتهم وخدماتهم,, كالمطاعم ،والفنادق، والبيع والشراء والإيجارات، والسفر، ووسائل الترفيه والمواصلات والعلاقات الشخصية.
وعلى الرغم من تطمين جيتس لجمهوره من الناشرين والصحافيين بأن الصحافة ستظل بمكانتها الريادية، إلا انه أكد لهم بأن هذه الإعلانات المبوبة التي كانت تختص بها الصحافة لن يمر وقت طويل دون تحويلها بالكامل تقريبا إلى صفحات الإنترنت، وتحديدا خلال عقد واحد من الزمن,, مما آثار سخط المؤسسات والشركات الصحافية في الولايات المتحدة,, وكما قال احد الصحافيين فإن بيل جيتس بمشاركته الجديدة في مداخيل الصحافة عبر إعلانات الإنترنت سيكون قد أكل حصته وأخذ نصيبه من البيزا قبل ان تصلك إلى باب منزلك.
وماذا عن صحافتنا المحلية، والشأن يمتد كذلك للصحافة الخليجية والعربية؟ وكيف يمكن ان تتهيأ صحفنا إلى النقلة الجديدة، أو بالأحرى تتكيف مع الوضعية الجديدة التي تنحسر فيها إيرادات الصحيفة والإعلام المطبوع عامة، وتنمو في المقابل مدخلات التلفزيون والإنترنت ووسائل الإعلام الإلكترونية ,, وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى عدة نقاط:
* لا شك ان صحافتنا قد تأثرت توزيعيا بالإقبال الشديد على القنوات الفضائية التي سحبت جمهورا كبيرا من جماهير الصحف والمجلات، وكذا انخفضت ارقام التوزيع اكثر بعد دخول الإنترنت واعتمادية الناس عليه في تلقي المعلومات والاستمتاع بفعاليات ترفيهية عديدة,, ومع مرور الوقت، يكون الإنترنت قد نهش أكثر من كعكة الصحافة وشاركها ممتلكاتها وإرثها التاريخي.
* ليس بالضرورة ان تشهد كل الصحف انخفاضا توزيعيا في مبيعاتها، فقد تزيد بعض الصحف ولكن يكون ذلك على حساب صحف أخرى.
* الوضع غير المستقر لبعض الصحف سيؤدي ربما إلى توقف صحف أو على أقل تقدير اندماج صحف مع أخرى أقوى أو أضعف منها في المرحلة القادمة,.
* تشهد الساحة بروز صحف جديدة، ولكن بتكلفة باهظة في محاولة لأن تكون في مستوى المنافسة القوية مع الصحف المتجددة القائمة، ومن أجل استقطاب القارئ الهارب إلى الفضائيات والإنترنت.
* تشهد المرحلة القادمة اهتزازات لبعض الصحف التي لم تتغير ولم تتكيف لظروف المرحلة الجديدة.
* تستلزم المرحلة القادمة إعادة بناء للسياسات التحريرية القائمة في كل الصحف بما يتمشى مع ظروف المرحلة ومستجدات العصر.
* لن تستمر رومانسية احتضان الورق التي ينادي بها البعض ويتشبث بها المفتونون بتقليدية العرض الصحافي القديم,, وادعاءات ان الناس ستظل تحن للورق وملامسته حنين الأم وعشق الحبيب، والتي لايرون فرصة لأن تتبدل أحوال الناس والقراء إلى عكس هذا الاتجاه,, والذي يظهر أمام أعيننا ان الناس بدأت مرحلة رد الورق ( على وزن رد الرسائل) والافتنان بالحاسوب والتعايش في رومانسية جديدة قوامها الفضائيات العصرية (التلفزيون والكمبيوتر).
* وباختصار فإن كعكة الصحافة المحلية لن تكون سهلة في تناولها حلوة في مذاقها، بل ستكون مرة، صعبة، ومجهدة في كل ما يحيط بها من طقوس وقيم أدائية,, ولن تخضع لمبدأ الضيافة العربية التي تدعو الناس للتفضل على المتاح، بل سيتزاحم عليها المئات ويتقاتل عليها العشرات، وقد يفوز بها عدد محدود جداً.
|
|
|
|
|