| مقـالات
في عام 1950م قررت الطبيبة الفرنسية كلودي فايان ان تخوض تجربة صعبة فيها روعة التحدي والاصرار على الانجاز، وهكذا تقدمت للعمل في اليمن في وقت كانت تشهد فيه عزلة دولية شديدة.
ركبت كلودي البحر والجمل والحصان حتى وصلت صنعاء ومارست الطب كطبيبة، والبحث كعالمة، وكانت تتذكر دائماً كلمات استاذها عالم الانثروبولوجيا الشهير ليفي شتراوس ، عندما تكون في الميدان,,؟ .
ودونت حصيلة بحثها عن اليمن في كتاب متميز كنت طبيبة في اليمن وقام بتعريب الكتاب الشخصية اليمنية البارزة محسن العيني عام 1958 وطبع في اليمن ثلاث طبعات، وقدم له شاعر اليمن الشهير المرحوم محمد محمود الزبيري.
كلودي فايان في كتابها تقدم لوحة فنية راقية، تغوص من خلالها في أعماق اللاوعي اليمني، تفكك الأسطورة، وتستقرئ وجع الشعب اليمني وفرحه، بلغة العالم الموضوعي الذي لا يتحيز لاحكام مسبقة، ولكن يحاول الفهم، والاصرار على الفهم لثقافة لها خصوصيتها ونسقها الفكري والشعبي.
وبقدر اعجابي بالكتاب وما تضمنه من معلومات وتحليلات، أعجبت أيضاً بشجاعة المؤلفة، فهذه طبيبة فرنسية شابة تترك زوجها وأطفالها في باريس، وتغترب في بلاد تجهل لغتها وتاريخها وخصائص شعبها، وتتعرض لقسوة الطريق وتحديات البيروقراطية، وتقبل بدخل أقل مما تحصل عليه في باريس، كل ذلك من أجل العلم والمعرفة، وربما لتقديم خدمة انسانية في بلد لا يوجد فيها إلا طبيب واحد مقيم.
وتأملت حال شبابنا وأنا أتلو الكتاب، هؤلاء الشباب الذين يرفضون العمل خارج المدينة التي تقيم فيها أسرهم، ويفضلون البطالة في الرياض على وظيفة في قرية من قرى القصيم أو حائل أو تبوك، بحجة أن في ذلك غربة، والبلاد بلادهم دين ولغة وتراث مشترك ورابطة وطنية واحدة، ومسؤولية بناء مشتركة .
إن الحضارة ارادة عمل، وحرص على المعرفة، وسباق تحد، ورهان ظروف، والشعوب التي تتميز بالنشاط والمغامرة والحيوية، وارتياد المجهول هي الشعوب القادرة على تحقيق النصر ومقاومة الجهل وحصار التخلف, والشعوب التي يركن شبابها للترف والكسل والخوف والركود تمنى بهزيمة ثقيلة في معركة مقاومة التخلف، وهي معركة تحكمها شروط وتتحكم فيها ظروف، ويشكل مسيرتها مشروع، ومن هنا جاء احتفالي في الكتاب ليس بما يحمله من معرفة وآراء وتحليلات، وهي كثيرة وممتعة وتعبر عن قدرة فذة وذكية، ولكن أيضاً وهذا هو المهم في تقديري بالروح والاصرار اللذين تحلت بهما الكاتبة، فهذه الفتاة تغوص في أعماق الشعب اليمني في محاولة للفهم رغم مشكلة اللغة ومسافة تصنعها ثقافة غريبة عليها، ومع هذا تصر على المحاولة وتقدم نصاً فريداً يضعك في نبض الشعب اليمني في عقد الخمسينات الميلادية.
وإذا كان من الصعب تقديم عناصر مهمة من الكتاب في مقال صحفي سريع فانني أكتفي بتقديم نماذج خفيفة من الكتاب، تعكس واقع الحال في اليمن في تلك الفترة أو طريقة عرض المؤلفة، وأوصي القارئ بقراءة الكتاب لما فيه من متعة ومعرفة.
تقول كلودي: ان الإمام أحمد، لا يقبل أي شكوى مكتوبة، ما لم يكن كاتب الشكوى ترك النصف الأعلى من عريضة الدعوة فارغاً، لكي يكتب عليه الإمام، إذ لا يليق ان تكون كتابته الرفيعة تحت كتابة رعاياه فلابد ان يبدأ المرء الكتابة من منتصف الصفحة تاركاً أعلاها لجواب صاحب الجلالة ص 57.
وتقول أيضاً ان الامام أحمد يجلس على الطريقة التركية حتى يستطيع القادم أن يقبِّل باطن قدميه ص 62.
وتشير إلى أن الشكاوى المبرقة تشكل مورداً هاماً من موارد الدولة، فالمواطن اليمني عليه أن يدفع تكلفة البرقية المرسلة، وفي الوقت نفسه يدفع تكلفة جواب البرقية، فالامام لن يدفع عنه تكاليف الاجابة، وهذه الرسائل البرقية مورد هام من موارد الخزانة ص 63.
وتقول المؤلفة والعهدة على روايتها ولم ينكر ذلك المعرب ولا المقدم وكلاهما من اليمن، ان الامام أحمد له مواهب خارقة كما يتداول ذلك الناس في صنعاء، اذ يقال انه يختلي ليلاً في غرفة مظلمة ويجمع الجن ويصدر إليها أوامره، وبهذه الطريقة علم بوجود كنز تحرسه قوة شيطانية في بئر، فنزل وهزم الشيطان بعد صراع رهيب ابيضت له لحيته كلها وسحب النقود وهو اليوم يصرفها في ميناء الحديدة ص 60.
ومن البديهي ان المؤلفة سمعت بذلك من عامة الناس وقد يكون الإمام أحمد رحمه الله لا يعلم بهذه الاشاعات، ولكن ما دام الناس يتحدثون بها فهي جزء من أساطير العامة.
وتقول كلودي: وأحاديث الإمام التي لا تخلو من الاستشهاد محببة الى الأدباء، وهو يهتم ايضاً بتقدم العلم الحديث، ويستدعي أطباءه أحياناً، ويقضي معهم جلسات يناقش فيها وظائف الأعضاء، كما أن المهندسين يشرحون له القوانين الطبيعية، ويستطيع هذا الرجل الذي يجهل أبسط القواعد العلمية الأولية ان يتابع الشرح ببساطة، والامام يعتزل عزلة صوفية يختفي فيها وينقطع للعبادة ص 61.
وتقول أيضاً ان منهج الإمام أحمد في الادارة يتميز بالمركزية الشديدة فهو الذي يقرر مثلاً إذا كان معلم في قرية نائية بحاجة إلى عشرة محابر أم لا, ص 63.
وتشير كلودي إلى أن هناك صديقاً للامام اسمه الجبلي اقتصاد اليمن بين يديه، وهو على درجة من الذكاء، وجعل منشآته شركات مساهمة، للامام أحمد فيها نصيب الأسد، وما دام الإمام نفسه هو المستفيد الأول فلا يمكن أن يتعرض العمل لأي مخاطر ص 64.
وتشير المؤلفة إلى بعض الممارسات الادارية، نكتفي بجزء يسير منها.
يكفي في اليمن ان يكون لانسان أي نفوذ طبيعي أو قانوني، وان يكون غير راض عن شخص ليأمر بان يكبل في الحديد، أي أنه ليس ثمة أمر عادي أكثر من أن ترى يمنياً يجر الأصفاد في قدميه ويسير في الشوارع ص 69.
وتقول أيضاً: أثناء اقامتي سقطت بعض أسوار المدينة في موسم الأمطار، وطبقاً لعادة غريبة قديمة يقع على عاتق الجزارين اصلاح هذه الأسوار المنهارة، وقد رفعوا لهذا السبب أسعار اللحوم ص 120.
وكلودي عاشقة لليمن طبيعة وبشرا، وتلمح هذه المحبة بين ثنايا السطور في معارج النص وأزقته ومنعرجاته، ولكنها كباحثة موضوعية، تقدم صورة مركبة لنسيج ثقافي واجتماعي مركب، وحين تكشف عن مظاهر قسوة في حياة الشعب اليمني، فانها لا تخفى تعاطفها، وعندما ترى جانباً جديراً بالاشادة تبرزه بوضوح.
تصف مدينة صنعاء حيث تقول: ان منظر هذه المدينة الملفوفة المكتظة داخل أسوارها في هذا السهل العاري محير للألباب، فأشعة الشمس القوية تجعل بيوت صنعاء ناصعة البياض في سفح الجبل، وعند الغروب يتحول كل شيء إلى اللون الوردي والبنفسجي ص 124.
وتقول أيضاً: في حي بئر العزب في صنعاء تبدو الحياة أنيقة وهادئة ولا يقطع هدوء الحي إلا صرير الآبار وعجلاتها وحبالها ويدل الصرير المتواصل على أن الجمل ينزل في طريقه المنحدر المحدود، ثم تفرغ الدلاء ما في جوفها من مياه محدثة هديراً شبيهاً بهدير الشلالات، أما الصرير التالي فيدل على أن الجمل يصعد وفي الأعلى يتوقف قليلاً، ونسمع صوت الحادي يغني الهي انزل علينا أمطارك، إنني مرهق ومتعب,, وجملي يشاركني هذا التعب هذا الغناء الحزين، هذه الأصوات، أصوات الماء والعجلات والجمال,, هي التي تؤلف منذ قرون عديدة نفس اللحن الرنان لمناظر صنعاء ومظاهرها، ولا يستطيع الإنسان أن يسمعها دون أن يعترف بحبه للأشياء الرتيبة التي لا تتغير ص 122.
وتقول المؤلفة: الشعب اليمني معروف بالذكاء ص 40 وتضيف: رغم ان اليمنيين قصار القامة فانهم وسيمون في الغالب،وهم من الجنس العربي البحت، ان ملامحهم منتظمة وجميلة ولحاهم قصيرة تكسو الوجه دون أن تغطيه، عيونهم دائماً مخضبة بالكحل، سوداء قوية ومسرحية ص 46.
وتقول: الناس في صنعاء دائماً حاضرون، مستعدون، يبتسمون ويتطلعون إلى المارة، ويتكلمون فيما بينهم، وتظهر عليهم السعادة في حياتهم البسيطة، وعندهم متسع من الوقت، فليسوا عجلين ولا مرهقين، وهم هزيلون في أغلب الأحوال، ويرتدون ملابس رثة، ولكنهم ليسوا مستعجلين أبداً ولا يتعبون أبداً، ذلك لأنهم لا يعملون قليلاً ولا كثيراً ص 141.
هذه الصورة مغايرة تماماً لصورة أخرى قدمتها المؤلفة عن شباب يمني انتقل إلى المستشفى لدراسة التمريض حيث تقول: يلاحظ مقدرة هؤلاء الطلبة فقد توافر فيهم الذكاء وقوة الذاكرة، والادراك الطبي، والمهارة الفنية، وحب المهنة، والتعطش إلى التعلم وفي وسع معظمهم الوصول إلى كفاءة مذهلة ص 131.
ان كتاب كلودي فايان كتاب مميز لا بما يحوي من معلومات فقط، ولكن أيضاً بالتجرد من كاتبة تختلف مرجعيتها الثقافية، ومع ذلك تستطيع ان ترى في ثقافة الآخر قيمة انسانية واخلاقية.
وكلودي فايان لها حس انساني رفيع، فهي لا تمارس الطب في اليمن من أجل مال، ولكن لتقدم خدمة انسانية لشعب آخر بحاجة لها، وفي ظروف وصفتها في الكتاب، ولا يمكن لقارئ منصف إلا أن يحمد لها ما قامت به من اصرار ومغامرة وابتكار عندما تفتقر إلى ادوية أو اجهزة تساعدها في عملها، والكتاب طبع في اليمن الشقيق ثلاث طبعات آخرها من مطبوعات دار الكلمة في صنعاء لمن يرغب في الحصول عليه فهو جدير بالقراءة.
|
|
|
|
|