* لا يعرف قيمة الثوب إلا من يكابد غيره.
لقد لمست، وشاهدت ككثيرين غيري معاناة اجسادنا مع الاردية و الثياب الأخرى.
رأيت أقواماً يخرجون من ثيابهم ,, الرحبة,, الفضفاضة، ويحشرون انفسهم حشرا في الأوعية ,, المحزومة الضيقة.
فكأنما كانوا يخرجون من فضاء فسيح,, الى نفق ضيق.
ولا يمكن ان انسى,, معاناة رفيق لي في احد اسفاري
كان يمتلك,, جسداً,, ممتلئا, حتى ليكاد يهرق نفسه على ما حوله
وكان بقامته القصيرة يبدو,, ككرة,, مربعة
ولم تكن النتوءات , والانتفاخات التي ازدحم بها جسده لتلفت نظر الآخرين,, تحت ثيابه,, الفسيحة.
ثم رأيته وهو يخرج,, من ثوبه,, الفضفاض,, ويحشر شحمه,, ولحمه في البنطلون والقميص.
ورغم ان القميص كان واسعاً كنصف دشداشة خليجية، و البنطلون كان عائما ك سروال فلاح,, تركي,.
الا ان ذلك الاتساع النسبي,, بدأ وكأنه يضيق ذرعا, بذلك الكوم الجسدي، كان منظره,, وهو يئز,, ويئن,,, داخل الوثاق الضيق يثير الاشفاق والضحك,, معا,.
وشر البلية ما يضحك.
* لم يكن صاحبنا,, حالة شاذة,.
فكلنا,, او معظمنا, ذلك الرجل.
كثير منا,, واجه معضلة الخروج من الثوب إلى البنطلون والقميص، وأكثرنا,, ظهرت له كرش صغيرة,, أو متوسطة أو كبيرة, على غفلة منه,, أو عن سبق,, إصرار,, وتصميم.
فنحن ننهمك في التهام الكبسة,, واللحوم,, في استغراق صوفي,, لا نفيق منه,, إلا عندما نشد الحزام.
ونذوب,, هياماً,, في الكنافة ,, وزنود الست و عيش السرايا و الحيسة و الحنيني .
ولا نصحو الا على احتجاج,, مقدماتنا المتمردة على سياج,, الملابس, ,الغربية,, وقيودها
* وحين يزاح عن كروشنا الستار,.
وتبرز مواهبنا على الملأ,.
نشعر ان اجسادنا,, قد خانتنا
وان مؤامرة,, ماكرة,, كانت تدبر في الخفاء,, ضد رشاقتنا,, وتناسقنا,, الجسدي.
* ولا اريد ان يكون حديثي عن الثوب ,, كما لو كانت ميزته الوحيدة,, انه يستر عوراتنا,, الشحمية ويساعدنا على الاستمرار في عاداتنا الغذائية,, السمينة.
* الرشقاء,, من الناس,, يمكنهم ,, أيضاً أن يعتزوا بثوبهم الوطني,, ويتمسكوا به,.
حتى لو كان,, لا يستر لهم كرشا ,, او يخفي لهم مقدمة .
فقليل من الأردية الوطنية,, يتوفر له,, من المزايا,, ما يتوفر ل ثوبنا
ف اللون غالباً ناصع,, بهيج.
و التفصيل على الاعم واسع,, رحب.
ويستوعب ثوبنا حرارة الطقس,, من حولنا,, حين يسمح بعبور التيار,, من منافذه المتعددة وفي اتجاهاته المختلفة,, فتبترد لذلك,, اجسادنا المتفصدة,, عرقا.
ولا يتطلب الثوب و توابعه ,, ان نشد عليه بحزام من الوسط، ولا يحتاج,, ان نربط ,, من اجله حبالا,, مزركشة حول اعناقنا.
والذين يرتدون الثياب,, لا يقضون,, وقتاً طويلاً أمام خزانات,, ملابسهم لانتقاء التناسق المناسب,, بين لون القميص,, وربطة العنق,, وموديل البدلة .
* وليس هناك ثوب للسهرة,, وثوب للنهار
وثوب لحضور سباق الخيل,.
وثوب لحضور حفل رسمي
وثوب للتسوق
* هناك,, فقط,, نوع واحد من الثياب تذهب به الى عملك، وتحضر به مناسباتك الرسمية، وتتزوج فيه,.
وتتسوق به,, في حراج عتيقة ,, او افخم سوبرماركت .
* وهذه الميزة,, للثوب,, تتضمن,, احدى اهم المزايا الحضارية ل ردائنا الوطني .
فالثوب,, رداء ديمقراطي,, من الدرجة الاولى,.
وفيما عدا اختلافات طفيفة,, يلفع ثوبنا البسيط جميع الاجساد بصرف النظر,, عن الثروة,, والمنصب والمكانة الاجتماعية.
* نحن,, خلف ثيابنا على الاقل,, نبدو اشخاصاً,, متماثلين متشابهين,.
فالرداء الرحيب,, ينسدل علينا,,فيواري كثيرا من نتوءاتنا و بروزاتنا الاجتماعية,, والمالية التي,, قد تحفز البعض الى التطاول بها على البعض الآخر.
واذكر انني قرأت مقالاً كتبه احد رجال الاعمال الغربيين ,, عن زيارته الاولى,, الى بلادنا
كان يقول ان الصعوبة الكبرى التي كانت تواجهه,, في صالات الفنادق واروقة المصالح الحكومية,, هي التمييز بين الرجل المهم,, والرجل الاقل اهمية,, لان الجميع كانوا يبدون له متشابهين,, في ثيابهم.
ويذكر انه اخطأ مرة فخاطب سائق الوزير ب صاحب المعالي وتجاهل الوزير الذي كان يقف الى جانبه.
* ان ديمقراطية الثوب الوطني,, هي احد موروثات بساطة الصحراء,, وبراءتها,, عندما تضفي على ابنائها ثيابا يتميزون بها,, لكنهم لا يتمايزون فيها.
* لقد حاول بعضهم,, ان يتآمر على ديمقراطية الثوب,, وبراءته، واجتهدت بعض طلائع الموضات المستوردة,, لكي تعرج لسان الثوب العربي, ,الفصيح فتجعله يتحدث بلكنة اعجمية,, ركيكة.
حاولوا ان يضيقوا,, وسطه,, حتى تغنج فيه بعض,, الاجساد المائعة,, مستعرضة خصورها,, ورشاقتها.
واطالوا رقبته وعددوا ازاريره ,, الى درجة الاختناق,, حتى تتصلب في قالبه,, بعض الرقاب النافرة.
وشق له بعضهم ,, شقا,, عند اطرافه,, حتى يبدو كفستان سهرة باريسي.
استورد له البعض,, اقمشة,, ملونة,, لامعة,.
وطرز له آخرون,, خيوطاً ذهبية,, وفضية ,,وحريرية.
لكن ثوبنا المناضل,, صمد,, وقاوم.
وتكسرت هذه الموجات على صخوره الصلبة.
وبقي الثوب ناصعا,, رحبا بسيطا,, و ديمقراطياً ,.
رغم أنف الافرازات المستوردة,.
ورغم انف الموضات المهاجرة,.
ورغم انف النزعة الى التفاخر والتمايز,, الموروثة في النفس الانسانية
* ليحفظ الله لنا ثوبنا
نداري به,, من سوءاتنا,, ما نسجته اضراسنا,, ومالم تنسج.
انور عبدالمجيد الجبرتي |