| شرفات
مهدي مصطفى أشبه الشعراء بأمل دنقل,, نفس الوجه الأسمر بعظمتين بارزتين,, بالشارب,, بحزن العينين أيضا,, انه صوت آت من برية الفقراء عله يخطف قبة من نار الشعر، ينتمي الى جيل مغبون اسمه جيل الثمانينات، ورغم عشرين عاما من الشعر والعمل الثقافي لايزال يمشي في حواري القاهرة بخجل الغرباء,, وبجسد نحيف كأنه علامة اعتراض على زيف الواقع والشعراء المخمليين وزمن المبايعات,, سألناه لماذا تمشي في الظل طويلا رغم عملك السابق كمدير تحرير لمجلة القاهرة وكمحرر لمجلة العصور حاليا؟
ذات مرة قرأت عبارة للشاعر سعدي يوسف يقول فيها كن في الخلف تكن في المقدمة ,, كان عمري آنذاك في بداية العقد الثالث، وفي الحقيقة لم استوعبها إلا في السنوات الأخيرة، لقد اكتشفت ان الثقافة عامة، والشعر خاصة، تحتاج الى نمو ببطء، وعبر مواقف حقيقية ورأيت انني لابد ألا أكون شاعرا في الأسواق لأنني لا أحب شعراء الربابة أو القوّالين الذين ينتشرون كالموديلات, والشعر العربي عبر ألفي عام يمكن ان يختزل في بضعة شعراء يعدون على اصابع اليدين! والباقون لا تأثير لهم.
ثم ان الشعر لا يتقادم، بمعنى ان قصيدة لامرئ القيس قد تكون أحدث من قصيدة لشاعر في نفس جيلي، وكما يقول هيدجر ان الشعر هو زمن مستمر كلما كان هناك احتياج له سيبقى,, وبالتالي لا اجدني متعجلا ان اكون الشاعر المعروف بالمعنى الإعلامي، بل اريد ان اتسرب قليلا على مدى عمري ولا استهلك في البداية وانتهي.
* إذا تكلمنا عن البدايات والأصوات الشعرية التي شكلت وجدانك,, كيف تعرفت عليها؟
تلقفني في شوارع القاهرة الشاعر الراحل فتحي سعيد، الذي لم اتأثر به قط ولكنه فتح لي دروب الشعر جميعا، وذلك عندما أهداني عام 1977م وعمري ثمانية عشر عاما دواوين السياب ومحمود حسن إسماعيل ونازك الملائكة وصلاح عبدالصبور واحمد عبدالمعطي حجازي، بالإضافة الى ديوانه الشخصي فصل في الحكاية وديوان عفيفي مطر يتحدث الطمي وقد أوصاني ان أُعيد له كل الكتب عدا ديوانه وديوان عفيفي مطر، وانطلقت اقرأ هذه الدواوين فكان السياب بالنسبة لي على رأس هؤلاء جميعا,, وجميعهم شكلوا عالمي باستثناء ديوان فتحي سعيد نفسه الذي رأيته شاعرا عاديا,, وبفجاجة الريف قلت له عندما التقيته بعد شهور: بصراحة يا أستاذ فتحي لم تعجبني كشاعر ولكنك اهديتني كنوزا عظيمة وتحديدا السياب ومحمد عفيفي مطر.
الليل والغربة
* في ديوانيك رحيل م,م ثم تنداري ,, تلح عليك موتيفات بعينها مثل الليل والخطوات والمدينة,, فهل ما تصوره احساس بالغربة أمام المدينة مثلما عَنّ للكثيرين ان يصوروه؟
ربما أكون شخصا غريبا ليس بالمعنى الوجودي، فليس الآخرون هم الجحيم وانما العكس، فالآخرون هم الحياة لكنهم رغم ذلك كثيرا ما تركوني وحيدا في الليل سواء وعوا أو لم يعوا,, فالغربة جزء أصيل في تكويني وعندما كتبت رحيل م,م رأى بعض النقاد انني تجاوزت كثيرا غرورا بأنني سميت الديوان بحرفيّ اسمي وهو ما لا يوجد في الشعر العربي,, ولكنه كان سيرة ذاتية حقيقية لي,, فأنا لم اغترب في القاهرة او في بغداد وإنما انا غريب عن أقراني وعن بيتي في قريتي,, وعن الشعر نفسه، لا استطيع ان اكتب عن تظاهرة معينة مثلا لأنني بطيء وسريع الغضب في علاقتي بالشعر لدرجة ان القصيدة تعيش بداخلي سنوات، فمثلا حجازي عندما كتب مدينة بلا قلب كان يقارن بين الريف الوادع والمدينة التي لا قلب لها,, وهو هنا متأثر بالرومانتيكية عند علي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وغيرهما.
الرومانسية والواقعية
* لكن ما الفرق بين غربتك وغربة حجازي مثلا؟
لا انظر مثله من تلك الزاوية الرومانتيكية لأنني لا أخشى المدينة ولم اغترب فيها، ولكني غريب عن العالم كأبي العلاء او طالب سلطة كالمتنبي ولكن تعوزني الحيلة التي يمتلكها المتنبي، إذ لا أطرق باب أي سلطة وإنما اجدني مزروعا داخلها وهو ما سبب لي حرجا ضخما في كل مراحل حياتي واشعر دائما انني عابر منذور لزمن ما.
* ألا ترى ان ندرة قصائدك سببها الانشغال بالعمل الثقافي العام من خلال مجلة القاهرة سابقا ومجلة العصور حاليا؟ أم انك لا تفرح بنشر قصيدة لك كسائر الشعراء؟!
* العمل في الثقافة والشأن العام لا يأخذ مني أي وقت زائد لأنني أحكم مسألة الوجود والحضور في الشعر، وربما أكون كما ذكرت لا أفرح بنشر ديوان أو قصيدة إلا إذا عبرت عني تماما,, ولنضرب مثلا بكتابات ادونيس فرغم ردود الأفعال القوية عند صدورها سوف تتلاشى مع التاريخ,, فأين انسي الحاج او سعيد عقل او البياتي أيضا؟ اولئك الذين شغلوا الناس,, في حين اني اعتقد ان امل دنقل او حسب الشيخ جعفر او سعدي يوسف وعفيفي مطر سيقرؤون طويلا في الأزمنة القادمة.
وأعود لأقول ان الكتابة التي تستحق الفرح يجب ان تكون من اللحم والدم حتى تتناسل في أزمنة اخرى ولا أقول تتناسخ او تصبح صدى لحوادث سياسية سيارة.
أزمة ثقة
* يلاحظ انك برغم هذا العمر مع الشعر لم تصدر سوى ديوانين,, هل هناك أزمة ثقة بينك وبين الشعر,, او بينك وبين جيلك من الشعراء؟!
ربما أكون فقدت الثقة في الشعر وفي جيلي بالفعل على مستوى الشعر والسياسة والأخلاق، بسبب الانحدار الإنساني السريع الذي تراه في كل المجالات,, وأنا لست رومانتيكيا ولكني أرى ان الشعراء اذا فسدوا تفسد الأمة,, وهنا نراهم يخرجون بمصطلحات مثل قتل الأب وانهم موتى بلا قبور، ولكني لا أزال ارى انه طوال عقد التسعينات المنصرم كانت الأزمة الإنسانية الاجتماعية خانقة واظنها ستنفرج بعد ان يغيب جيل بالكامل صنعته ثورة يوليو ليس على المستوى الثقافي فحسب بل على المستوى الاجتماعي عامة,, ومن هنا أنا مأزوم بالفعل، ومثلي كثيرون شكوا في قدراتهم الابداعية ومشاعرهم الإنسانية,, مغتربين داخل بلدانهم ومغتربين مع ادواتهم الأولى.
واسمح لي ان أحسد محمود درويش وسعدي يوسف وادونيس على قدرتهم على الاحتفاظ بأشعارهم رغم كل هذه الأزمات الضخمة التي تلقوها,, وبصراحة ما كنت اتمنى ان اخرج الآن بكل هذه الجثث التي أحملها على ظهري من أصدقائي الشعراء ولابد ان هناك أفقا آخر لهذه الثقافة يختلف عما حدث طوال العقد الماضي.
شريف صالح
|
|
|
|
|