| الثقافية
اليوم أحدثكم عن والدي,.
بعضكم عرفه ضابطاً ارتقى في سلم الخدمة العامة حتى وصل أعلاها,, وتنقل في دوائر الأمن في بلادنا من أدناها إلى أقصاها.
وبعضكم عرفه محاضراً إدارياً يكتب عن فنون القيادة ويدرس نماذجها المشرقة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحتى عصرنا هذا، ويصوغ دروسها وعبرها في كتبه وأحاديثه ومحاضراته.
وبعضكم عرفه متحدثاً أو خطيباً، في الاذاعة أو التلفاز أو النوادي الأدبية والمنتديات الثقافية يبحث عن الحكمة ويغوص في أعماق التاريخ ويستخرج درره ونفائسه ويقدمها لجمهوره حلوة سائغة عذبة.
وبعضكم عرفه شاعراً وان نفى عن نفسه تلك الصفة مع أنه كان قد أثبتها حين قال:
يا سليل المجد عفواً إنني انا من ضم إلى السيف القلم إن نظمت الشعر حلواً رائقاً صغت من ألحانه عذب النغم أو نضوت السيف في يوم الوغى خلتني عند اللقا ليث الأجم ضابطاً حيناً، وحيناً شاعر وكلا الأمرين من عال الهمم |
وبعضكم عرفه حارساً للغة العربية، منافحاً عنها، متصدياً لكل ما يظن أنه قد يمس من كيانها، وسعيداً بما يلقاه من عنت في سبيلها، معتبراً ذلك وساماً من أوسمته التي حملها، ولقد قال عن نفسه في هذا الشأن:
أنا لا أهوم في الخيال وإنما تذكي فؤادي المكرمات وتشعل أحمي حمى الفصحى وأفخر أنها لغتي بها جاء الكتاب المنزل وبها أحاديث النبي المصطفى وبغيرها القرآن ليس يرتل |
وبعضكم عرفه قارئاً لكتاب الله، متأملاً معانيه، حافظاً لمعظم أجزائه، ومحللاً وشارحاً لمكارم الأخلاق ولسير الأعلام فيه، ومؤلفاً للكتب التي تربط بين كثير من جوانب الحياة العامة وبين مضامينه، وقد قال عن نفسه إن أغلى مؤلفاته لديه وأقربها إلى قلبه هو كتابه، مكارم الأخلاق في القرآن الكريم .
وبعضكم عرفه انساناً محباً للناس، عطوفاً عليهم، حريصاً على العدل، مقبلاً على مد يد العون لكل محتاج، ومبادراً إلى اغاثة الملهوف واجارة المستجير.
أما أنا فلقد عرفته أباً من طراز فريد,, لقد كان والدي صديقي الأول ومعلمي الأول، ولقد كان كثيراً ما يخاطبني بقوله: يا بني العزيز وصديقي الحميم.
علمني القراءة والكتابة قبل أن أدخل المدرسة.
وعلمني اللغة الانجليزية قبل أن أنهي المرحلة الابتدائية.
وعلمني فنون الخطابة والالقاء في المحافل العامة قبل أن أتجاوز العاشرة من العمر.
وعلمني أدب الحوار ومنطق المناظرة في سلسلة من النقاشات الفكرية والأدبية والسياسية والادارية والتاريخية بدأت منذ أكثر من أربعين عاماً وكان آخرها قبل أسبوعين من وفاته.
وعلمني تذوق الشعر وأشركني في مساجلات شعرية معه ومع أصدقائه، مؤكداً في كل مناسبة على أن الشعر هو ما قيل بلسان عربي فصيح ملتزماً بالوزن والقافية، وان ما غير ذلك لا يرقى إلى أن يكون شعراً.
وعلمني احترام اللغة العربية، لغة القرآن، وكثيراً ما صحح لي ما قد يبدر مني من لحن أو سهو وزلل، واستمر يمارس الدور نفسه مع أبنائي وأبناء اخواني وغيرهم من أفراد الأسرة والأصدقاء.
وعلمني قبل ذلك كله وبعده,, أن تقوى الله هي أساس النجاح وسبب السعادة في الدنيا والآخرة، وان في استقامة الفكر والسلوك منجاة بإذن الله من كل ضيق، وشعوراً بالنقاء وراحة البال في كل حين.
كان يقوم بذلك كله دون أن يستخدم سلطة أبوية أو مكانة فوقية,, بل كان يؤديه بحب وحميمية، وبابتسامة أو نظرة أو ايماءه.
الحمد لله,, لقد حظيت بصحبتك يا أبتاه قرابة خمسة عقود، كنت لي فيها أباً وصديقاً ومعلماً، ونهلت من معينك وان لم أرتو، ولكن ما يحزنني حقاً هو أن ابنائي لن يجدوا بعدك من يسألونه عن القرآن والحديث والسيرة النبوية وتاريخ العرب والمسلمين والشعر والثقافة والأدب والفكر مثلما كانوا يسألونك, وأحمد الله أنهم عرفوك ليعرفوا أي رجل فقدوا يا نجماً توهج ضياؤه بعد أن أفل بريقه.
والحمد لله حين حدثتنا عما تركته لنا من ثروة عندما قلت:
خير ما يترك الفتى خلفه ذك ر حميد يجري بكل لسان |
وأدعو الله أن يشملك برحمته ومغفرته وان ينزلك عليين مع الشهداء والأبرار والصديقين وحسن أولئك رفيقا,, والحمد لله أولاً وأخيراً.
|
|
|
|
|