| مقـالات
البيّنة جمعها بيّنات, ويُخطئ من يجمعها على: بيانات ففرق كبير بين: بيّنات وبيانات لكن هذا وذاك يجوز أن يُطلق عليهما علامة التي جمعها: علامات.
وأصل البينة الدلالة، وهي ما يستدل بها لإثبات شيء ما كعلامة الطرق، وعلامة الأرض، وعلامة النوع والجنس، والدلالة قسمان: الحس وهذا ظاهر والمعنى وهو قسم غامض وهو الذي يحتاج إلى الفراسة وجودة النظر ودقة الملاحظة ومعرفة الحالات والطباع والتمييز بين الأشياء وهذا من باب الفراسة قرينة من القرائن التي لا يتعلق بها حكم أو نظر لكنها تجعل في الاعتبار فقط.
وابن قيم الجوزية بنى كتابه على مثل:
1 تقسيم السياسة إلى نوعين:
2 ماروي من قضاء نبي الله سليمان بالولد الذي ادعته امرأتان.
3 ما ذكر في القرآن مما يتوصل به إلى تمييز الصادق من الكاذب.
4 ذكر تكذيب المودع والمستأجر إذا ادعيا ما لا تحقق له.
5 ما ذكر عن شريح في فراسته وفطنته.
6 ذكر فراسة إياس بن معاوية.
7 ما ذكره يزيد بن هارون من فراسة بعض قضاة واسط.
8 ما ذكره أبو السائب من فراسة بعض القضاة
9 ثم ما بين ص 36 حتى ص 64 أورد أموراً غاية في الجودة من صور: الفراسة.
وكم كنت أود منه رحمه الله تعالى لو أنه نظر حالات البينة والفراسة الظنية المبنية على سوابق لا يمكن البناء عليها وكذا: لو تطرق إلى صور التغرير وحقيقة التزوير والتزييف.
ثم تحقق من صحة النصوص التي أجزل في كتابه من إيرادها.
والكتاب أعتبره من بحوث علمية نادرة جمعت بين:
علم القضاء.
والمحاماة.
والتحقيق.
والنفس.
والتربية.
والأدب.
وأصول النقد العلمي.
وأصول النقد التحقيقي.
أورد منه بعض القليل جداً لظني أن القراء الأعزاء اطلعوا عليه أو جلُّهم يقول في ص 10 /11/12/13،.
ومن ذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده بالقافة وجعلها من أدلة ثبوت النسب وليس هنا إلا مجرد الأمارات والعلامات 1 .
ومن ذلك ان ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل فقال هل مسحتما سيفيكما.
قالا: لا.
قال: فأرياني سيفكما.
فلما نظر فيهما.
قال لأحدهما: هذا قتله.
وقضى ليه بسلبه، وهذا من أعظم الأحكام وأحقها بالاتباع فالدم في النصل شاهد عجيب .
ثم هو يقرر: وبالجملة فالبيّنة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوف مسماها ولم تأت البينة في القرآن مرادا بها الشاهدين وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان مفردة ومجموعة، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم البيّنة على المدعي المراد به: أن عليه ما يُصحح دعواه ليحكم له والشاهدان من البيّنة ثم يستطرد: ولا ريب أن غيرها من أنواع البيّنة قد يكون أقوى منها كدلالة الحال على صدق المدعي فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد، والبيّنة والدلالة والحجة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والإمارة متقاربة في المعنى قلتُ: هذا في مجمله حق لكن البينة غير القرينة ولا يحسن الخلط هنا وليس من البينة سوابق الجرم لكنها قرينة، كما أن حال المدعى عليه أيّاً كان حاله من خوف وتردد وضعف وحب للخلاص كل هذا لا يكون بينة ولا قرينة.
وقد وجدتُ أن عدم إحسان التعبير من قبل المدعي أو المدعى عليه أوقع الكثيرفي شك في حال من هذه حالته.
فإن عدم إحسان التعبير وضعف الثقة في النفس قد يكون من يتصف بهذه الصفة موضع شك كبير أن الحق عليه وأنحو باللائمة كثيراً على من يعتمد على مجرد الفراسة فقد تبين لي أن الفراسة تخطئ كثيراً إذا صدرت في حال عجلة أو أن صاحبها ليس من أهلها, أو أنه يبني على ما يظهر من حال وصفة من يطلب أو يطالب بحق ما.
فقول ابن قيم الجوزية: ولا ريب أن,,,, يحتاج إلى مقال فدلالة الحال على صدق المدعي ليست حسب علمي أقوى من البينة فإن هناك من المدعين من يعتمد التهديد المبطن ومنهم من يجيد صياغة اللفظ، ومنهم من يجيد التمثيل وصاحبه في حال: خوف أو ضعف أو انهيار من هول ما يسمع، فحال المدعي وصدقها إنما يكون هذا مرتبطاً بصفات نفسية وعقلية غاية في الدهاء والشواهد والاعتبارات يملكها من ينظر حال هذا وذاك فليس في يقيني أقوى من البينة المتوفرة شروطها وضوابطها.
ولعل حال: دعوة المظلوم وإجابة دعوته ولو بعد حين أقوى دليل على أن الدعوى قد تكون في جانب من لم يكن له الحق لولا ضعف صاحبه وقلة حيلته وعدم حسن تعبيره.
وأعرف رجلاً طلق زوجته بقوة أهلها ثم إنهم تجرأوا عليه وأخذوا ولده منه دون شكوى إنما هكذا فسكت، لكنه انتصر بعد حين في أحوال إعجازية عجيبة.
يقول ابن قيم الجوزية: ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات فإذا ظهرت لم يقدموا عليها شهادة تخالفها ولا إقرارا، وقد صرح الفقهاء كلهم بأن الحاكم إذا ارتاب بالشهود فرقهم وسألهم كيف تحملوا الشهادة وأين تحملوها 2 .
قلت قوله يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات فإذا ظهرت لم يقدموا عليها شهادة تخالفها ولا إقرارا,,, كلام جيد في معناه لكن يحسن هنا التفريق بين أمور قد يحتاجها المقام منها:
1 قد يُستغل بعض الناس ليكون في المواجهة بسبب جهله أو سقمه أو ضعفه أو التغرير به فيكون هو: المدان أصلاً.
2 قد تتشابه العلامات، وقد تتشابه الأمارات لاتحاد الجرم في شكله العام بينما لا يساوي الفاعل نسبة كبيرة في الاقتراف بسبب سبق غيره إلى هذا الجرم مثلاً فعند ظهور كافة الأمارات يدان هذا بكل شيء.
3 استخراج الحقوق يكون تبعاً لحال الجاني، وأعرف طالباً سنة 1384ه اتهم بسرقة قلم ممتاز فلما واجهه المسؤول وكان ذا هيبة وقدرة أقرّ لكنه علل بضياع القلم فدفع القيمة اثني عشر ريالاً وطرد من المدرسة ثلاثة ايام ثم تبين بعد ثلاثة أشهر أن أحد المدرسين كان قد استعاره وسافر به إلى السودان ثم عاد بعد الإجازة وأعاد القلم.
وأعرف رجلاً أُخذ حقه من قِبل ولده فسكت وفيما بُلي ولده بمرضٍ ما عاد إلى الأب حقه.
وقد كان هذا الوالد ضعيف الشخصية وهو ذو مال وولد لكنه هدد بطريق ذكي أن يسكت فسكت.
من أجل ذلك لابد من الغوص في الزوايا والخبايا والتأني والمراجعة، لكن قول ابن قيم الجوزية: ولا إقرار فيه نظر، فإن الإقرار 3 إذا توفرت شروطه وضوابطه وتبينت حقيقته بوجه لا يحتمل شكاً فإنه يقدم على ما سواه لحالات كثيرة قد تعتري الفراسة والأمارات الظاهرة ليس هذا محل بيانها.
ومسألة تفريق الشهود وجيهة جداً في:
أمور كثيرة يحتاجها الحاكم في مواطن متعددة خاصة في قضايا: خاصة يظهر فيها لجاجة أو خدمة أو سوء أحد المتخاصمين.
والشهود أمرهم في غاية الأهمية ظاهراً وباطناً وأعرف رجلاً وشى به أكثر من واحد واتفقت الكلمة عليه وحينما بُحث أمره وجد كما قيل إلا أن سبب ما قيل عنه أمور منها:
1 أنه فضولي.
2 متعجل.
3 لا يلقي بالاً لقوله.
4 نباهته وحبه للتقدم، مما حمل البعض على حسده والحقد عليه.
5 سوء تصرفه حينما علم, فقد سكت ولم يدافع عن نفسه مما حمل عليه ثبوت ما قيل عنه، ثم تبين أنه لا يقصد شيئاً أبداً، لكن هذه طبيعته مما دفع إلى رد اعتباره بسرعة, 4 .
وأورد ابن قيم الجوزية كذلك قال: وعن وائل بن حجر قال: جاء رجل من: حضرموت، ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عيله وسلم فقال الذي من حضرموت:
يا رسول الله: إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي.
فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها وليس له فيها حق.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألك بيّنة.
قال: لا.
قال: فلك يمينه.
فقال يا رسول الله: الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء فقال ليس لك منه إلا ذلك.
فلما أدبر الرجل ليحلف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن حلف على ماله ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض رواه مسلم 5 .
قلت: هذا هو الأصل في الحكم اليمين من المدعى عليه إذا لم يكن هناك بينة ناهضة تحجز الحق لصاحبه: المدعي.
قلت ومن البينة:
* الشهود.
* الوثائق المعتبرة شرعاً.
* الصك الشرعي الخالي من المعارض.
وتأتي الفراسة هنا بمساءلة المدعى عليه بأمور دقيقة ثم يساءل المدعي كذلك ثم يجمع هذا كله فسئل أهل تلك الجهة القريبين من موضع النزاع بلطف وتأنٍ وهذه الحال نافعة لتنزيلهم منزلة: الشهود بجانب ما يكون من ثوابت لابد: منها.
المراجع والبيان
1 القافة من يعرف الأشباه، وآثار الأقدام وهو مسلم، بالغ، مميز، عاقل، أمين، ومعرفة القافة للشيء إنما هو: قرينة.
2 ص 24/25.
3 المحلى لابن حزم, كتاب الإقرار.
المغني لابن قدامة.
4 حدثني بها عام 1399ه في ذي الحجة بمكة أحد حجاج نيجيريا .
5 ص94 وهو كما قال: رواه مسلم.
وفي مثله أحاديث أخرى، والمسألة خلافية ليس هنا موضع طرحها.
|
|
|
|
|