| مقـالات
وإذ نقطع جميعاً بوجود سلبيات فادحة في التيار الإسلامي فإنه يجب أن نقطع بدون أي تردد أنها من عند أنفس الإسلاميين الذين أتاحوا بتصرفهم فرصة ثمينة لأعدائهم لتدبير المكائد، ولأننا أمة مسلمة تحكم شرع الله ويطالها ما يمنى به المسلمون في جميع أنحاء العالم، فإننا نحمل هم المسلمين، ونضيق ذرعاً بتنامي الفتن واستمرار الحروب، ولاشك أن ما نشاهده في أفغانستان والصومال على سبيل المثال يعد من مظاهر غياب الوعي، وكلما خبت نار، أشعل الوعي المنقوص ناراً أخرى.
ومما هو محسوب على غياب الوعي أننا نتردد في تحديد الخطأ وتحديد مصدره، ولانكاد نقبل بأدنى حد من الممارسة النقدية للذات.
وحين يجرؤ بعض المخلصين والصادقين، ويمارس النقد بكل لطف وتودد لا يتردد الآخرون في تصنيفه من الأعداء أو تهميشه والتقليل من فاعليته، وقد يصل الأمر إلى تصفية جسده عبر إرهاب طائش أو تصفية سمعته عبر خطاب هجائي، وكأن العمل الإسلامي حيازات يتسابق المهتمون على امتلاكها، إن مثل هذه الصداميات المفتعلة لون من غياب الوعي الذي نسعى جهدنا لاستحضاره وتفعيله.
إننا بأمس الحاجة إلى وعي الأسباب التي أجهضت كل المشاريع العربية إن على مستوى السلم أو الحرب أو على مستوى الاقتصاد أو الوحدة، وكذلك المحاولات الإسلامية ودراستها والاستفادة منها بوصفها مواعظ ومؤثرات لكي نتمكن من توفير مناخات ملائمة لمحاولات أخرى، تسهم في عمارة الكون وهداية البشرية وعبادة الخالق، وهي مجمل مهمات المسلم السوي على هدى من كتاب الله وسنة رسوله, يقول أحد المفكرين:
والدارس لتأريخ الحركات الإسلامية يجدها جميعاً قد تجنبت دراسة التجارب السابقة وتحليل أسباب فشلها وما من طائفة استفادت من إخفاقاتها، وذلك نوع من غياب الوعي أو نقصه.
لقد تجلت بشاعة غياب الوعي عند سائر الحركيين بالملامح التالية:
1 تجريم النقد الذاتي واعتباره محاولة لإجهاض المنجز.
2 عدم قراءة التجارب السابقة والوقوف على أسباب اخفاقها.
3 افتراض شيطان أكبر تنشغل الحركات الإسلامية بملاحاته وصداميته وتشغل به الرأي العام وتوتر مشاعره وتوفر من خلاله بطولات رخيصة الثمن.
4 الإيغال في المثالية والانفصال التام عن الواقع ورفض الخلاف المعتبر وتهميش المتحفظ والمتسائل.
5 الإيمان بمبدأ أن تكون معي دون مساءلة أو تردد أو تكون ضدي عند أدنى مساءلة أو استيضاح.
6 الاتجاه إلى القمة وتعجل النتائج واغفال أهمية القاعدة والتأسيس.
7 التمحور حول الفردية والحزبية على حساب القضية وعلى حساب بناء المؤسسات الثابتة التي يندرج فيها الجميع ولا تندرج في الفرد.
8 وضع خيار واحد يتمثل في أن نكون كما نريد أو لا نكون البتة.
9 فردية الممارسة دون تقدير أو توقيت.
10 تقمص مناهج الثوريين باعتبار المثالية محصورة في مواجهة السلطة وتجريمها والنيل من رجالاتها دون تفريق أو استثناء.
11 اعتبار الاختلاف مواجهة ضد القضية وليس اختلافاً ضد المنهج وأسلوب الممارسة.
12 انكار دور الآخر على المستوى الرسمي أو الفردي في سبيل واحدية المنهج وواحدية الزعيم.
13 تجاهل منجز الآخر ومحاولة تقويض معماره.
14 عدم الأخذ بمنهج السلف الصالح ومقتضايات العقيدة.
15 انعدام هيبة السلطان، واحترام العلماء.
16 الاستخفاف بقيمة الأمن الذي لا يتأتى إلا في ظل حكومة شرعية قوية عادلة.
17 الإيغال في نقد الآخر وتقليص دور التربية الدينية وتصفية العقيدة من الشوائب.
18 رفض الاختلاف المعتبر والتماس المحاذير لإسقاط أطرافه.
19 الاشتغال بالنوايا وتصور المظاهر أغطية لتآمر كيدي.
20 منع الأشياع والأتباع من قراءة الآخر واعتبار ذلك إخلالاً في الولاء وإفساداً للتصور السليم.
21 الخلط بين: الذات، والمنهج, وتصور واعتبار نقد أحدهما نقداً للآخر.
22 الوقوع في لعبة التجريب.
23 عدم الفهم الدقيق لتبعات النظام بحيث يقع البعض في سلبيات التلفيق، فالسياسة الإسلامية تقوم على البيعة والشورى ونيابة أهل الحل والعقد في حين ترى البعض يتحركون من خلال السياسة الشرعية ويستدعون مفردات ليست منها في شيء.
وفي ضوء كل ذلك تتشكل الرؤية عن الآخر لا من خلال ما قال وما كتب، وما عمل, وإنما من خلال ما قيل عنه.
الوعي الحقيقي للأفكار والمبادئ والمذاهب والمواقف والرجال المنسجمة أو المضادة أو المخالفة حول القضية أو حول منهجها أن تقرأ الأفكار من نصوصها لا من خلال ما كتب عنها، وأن نلتزم بمفردات كل مشروع فلا نخلط بين مفردة وأخرى، ولا يمنع إسلامنا الاستفادة من مفردات الآخرين, خلل الوعي أن نقرأ هذه الأفكار بواسطة الآخر يقول الدكتور عبدالمنعم الحفني وهو بصدد الحديث عن كير كجاردت 1855م واختلاف الدارسين حول منهجه الفلسفي ويتطلب فهمه أن تقرأه فيما كتب لا أن تقرأ عنه ولنا أن نستعيد تاريخنا الحديث فالحركة الاصلاحية التي نهض بها المصلح محمد بن عبدالوهاب رحمه الله , تتفق مع منهج كثير من خصومه الذين ناصبوه العداء بسبب ما يقال عنه لابسبب ما يقول هو، ولو أنهم قرؤوه لكانوا معه.
وفي مقابل وعي الفكر بقراءته أو بقراءة ما يقال عنه، يجب أن نبحث عن حلقة تكاد تكون مفقودة، وهي أن بعض النخب الثقافية والفكرية لا يتمثلون أكفارهم، ومن ثم ينفصلون في ممارساتهم عما يقولون، مما يؤدي إلى التناقض بين ممارساتهم ومقولاتهم، إن تعاملهم مع الأشياء ومع الأناسي شيء مغاير تماماً لاهتماماتهم، بل أكاد أقول: إنه مخالف لمشاريعهم، حتى أننا لا نجد أدنى تناغم بين المفكر وما يدفع به إلى الناس من مؤلفات وكلمات وخطب، وكم نسمع عن الإسلام الفكري، والإسلام السياسي، والإسلام الحركي, وتلك ظواهر ليست من الخير في شيء، والتعامل مع هذه النوعيات يحتاج إلى وعي عميق وتصور دقيق, والخير كل الخير أن يكون الخطاب بمثابة سيرة ذاتية لصاحبه، ولهذا يذهب بعض المفكرين إلى أنه ينصت لأفكاره ويكتب وكأنه بمثابة مستمع لنفسه ملتقط لسيرته وليس مؤلف كتاب.
والقرآن الكريم حذر من الازدواجية الشخصية كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون سورة الصف آية 3.
وإذ نحن بصدد الحديث عن النخب في تصوراتها وممارساتها وتعاملها مع الآخر نود الإشارة إلى أن طائفة من النخب الثقافية والفكرية تمعن في العزلة وتنطوي على نفسها، فهي لا تنطلق من الواقع وإنما تطل عليه, وهي لا تتناغم مع الأمة وإنما يبدو ايقاعها نشزاً مزعجاً، وهي لا تحظى بأدنى تأييد اجتماعي لكل ممارساتها، واشكاليتها ما يستهويها من بوارق الحضارة الغربية التي ملأتها انبهاراً وإعجاباً، ولذا فهي لا تتطوع بالنظر في مدى ملاءمة الطارئ للقاعدة العريضة من الأمة.
بل تجتهد في نفخه وتضخيمه واحاطته بهالة من التعظيم حتى يسد الأفق ويحجب الرؤية ويعطل ملكات الفحص والتقصي والامتحان، والنخبة كما يقول وليد نويهض نجحت في تكوين هالة ثقافية ينقصها الاساس الاجتماعي والشرعية التاريخية لنجاحها الفكري .
لقد أصبحت أقلية تبحث عن حيز، ولم تكن قوة دافعة أو قائدة كما لم تحصل على أدنى تأييد يمكنها من الأداء, ولعل من أجمل مقولات نويهض ما عرضه أحد الدارسين عنه والنخب العربية تلبس قميص التوليف بين المتناقضات المستعارة من أوربا علماً أن الزحف الغربي لن يستثني النخبة من العقوبة، فالغرب ليس له أصدقاء وإنما له مصالح ومن مصلحته حالياً تسمين النخبة لتسهم بتسهيل اسقاط الأمة.
ولو أن النخبة بمختلف تياراتها وانتماءاتها وعت نفسها، وواقعها لاستطاعت أن تتجاوز هذا المألوف الذي تعيشه وهذا الصدام الذي تتعرض له مع من تدعي خدمته، لقد عمد بعض الساسة إلى ادخال النخب والمعارضين في منظومته فما لبثت أن عجزت عن تحقيق ادنى حد من مشروعها خارج السلطة وهذا مؤشر على عجز المشروع عن تمثل الواقع والانطلاق منه.
لقد دخلت تلك النخب صراعاً غير متكافئ مع النوازع الفكرية والاجتماعية والأدبية، وأباحت كل فئة لنفسها توزيع التهم والألقاب والتصنيف، فهذا رجعي، وذلك متخلف، وذاك عميل، وفي المقابل ذلك تقدمي أو طليعي، أو تنويري، وفي خضم هذا الصراع نسي الجميع القضية وأفرغوا أنفسهم من الهم، وعطلت رسالة الإنسان في الحياة الدنيا كما أرادها الله لخليفته في الأرض, إن الواقع المتردي يحتاج إلى نخبة واعية تدرك أنها ذات رسالة وأن تاريخها وانتماءها ومصيرها كل ذلك يتطلب حواراً مع الآخر لا صداماً وندية لا ذوباناً، واستثماراً لا استهلاكاً.
إننا أمة لها ماضيها، ولها تاريخها، ولها رسالتها، ولكل ذلك مطالبه, ثم نحن أمة معاصرة تعيش حياة لها مطالبها المعاصرة، ولها واقعها المختلف عن ماضيها ومن حقها أن تعيش حاضرها أن تعيش معاصرتها, وهذه التركيبة المعقدة تستدعي وعياً دقيقاً يتحامى الصدام ويتحاشى الذوبان، ويمتلك القدرة على الحوار الحضاري وتبادل المصالح المشروعة والاستفادة من المنجز البشري بكل ما يعج به, ومن الخير لهذه الأمة ان تدرك امكانات التحرك ومطالبه لتنهض من عثرتها وتبدأ رحلة العودة إلى الحياة السوية، ولن تنال شيئاً من ذلك بالتمني، ولا بالخطاب العاطفي أو بالخطاب التحذيري، أو التحريضي أو الهجائي.
لا يتأتى ذلك بالصدام مع الذات ولا بالصدام مع الآخر، لقد مرت بالأمة صور شتى من خطابات النخبويين وكلها تحطمت أو كادت تتحطم على صخرة الواقع الصلدة، ذلك أنها خطابات وقتية تخذم الخطيب ولا تفرغ للأمة.
|
|
|
|
|