| الثقافية
لم تزل رواية جان بريله المصور والأديب الفرنسي (صمت البحر) بكامل سحرها، حتى بعد مرور أكثر من نصف قرن على كتابتها، حيث احتلت هذه الرواية الصغيرة حيزا من النادر أن تحتله رواية من روايات أدب المقاومة الإنساني.
وبريله، الذي كتب روايته هذه عام 1941 إبان الاحتلال النازي لفرنسا تحت اسم مستعار (فركور) له سواها (السير إلى النجوم) ومسرحية (حديقة الحيوان) او (القاتل الذي يحب البشر).
وكما كان ل(صمت البحر) أثرها الواضح في عالم الرواية، وعالم المقاومة حيث كانت توزع كمنشور سري ضمن سلسلة (منشورات نصف الليل) كان لفيلم المخرج جان بيير ميلفيل المأخوذ عن الرواية أثره الواضح في التحول السينمائي الكبير الذي شهدته فرنسا ضمن سينما الموجة الجديدة أيضاً, فكأن الفن والحياة يتبادلان الأدوار وهما يحيكان وجدان البشر ومستقبلهم.
بعد ست سنوات من كتابة الرواية اقدم ميلفيل على مغامرة تقديمها للسينما، 1947، وحين نقول: مغامرة، فإننا نعني تلك الكلمة بكل مافيها, فالرواية يسردها الصمت اكثر مما يسردها الكلام تماما كحال فرنسا خلال الاحتلال: (صمت في الجماعات، صمت في البيوت، صمت لان العرض الألماني يسير ظهراً إلى (الشانزيليزيه) صمت لأن الضابط العدو يسكن في الغرفة المجاورة.
لكن ميلفيل الأمين لنص الرواية، لم يتردد لحظة في تقديم فيلم يمتلك لغة سينمائية مجددة، مؤثرة، بإيقاع اشبه مايكون بإيقاع موسيقي فذ، لايجرؤ المشاهد على خدش تيار تدفقه.
تتناول الرواية الفيلم، حياة عجوز فرنسي وابنة اخيه من خلال علاقة الصمت مع ضابط الماني حل (ضيفاً) عليهما عنوةً، حيث تم اختيار احدى غرف منزلهما ليقيم فيها, وفي ظل حضوره، تتكلم الملامح والعيون والأيدي وحدها في غياب الكلام, العجوز الذي قام بدوره في الفيلم الممثل (جان ماري روبين)، العجوز المشغول بدخان غليونه، ويده التي تسعى نحو دفء النار، وابنة أخيه التي تقوم بدورها الممثلة (نيكول ستيفان) المشغولة بكرة الصوف وماتغزله يداها، وعيناها المثبتتان عند نقطة التقاء المغزلين، والضابط الألماني (ورند فون ابريناك) الذي قام بدوره الممثل هاورد فيرنون متألقاً في تقديمه للدور عبر متوالية منولوجية يغمرها حس عميق بالذنب، متوالية لاتجد أمامها سوى الصمت.
الصمت المخيم على كل شيء في الغرفة، الصمت الذي لايمتلك سوى ذاته بكامل إرادتها، وهي تواجه (حق) المحتل بالكلام، (حقه) الذي يتفتت ويتناثر ليتحول إلى هزيمة مع تقدم الفيلم حيث (القوة تكفي للاحتلال لا للسيطرة) ووهم الغازي يدفعه لأن يعتقد (لدينا الفرصة لتدمير فرنسا، وستدمر، ولن ندمر قوتها فحسب، بل روحها أيضا، خصوصا روحها فهي أعظم خطر).
لكن ذلك الإحساس بالتفوق الذي يبديه زملاء (ابديناك) في الجيش، لايلبث أن يتحول إلى رماد، أمام إدراك (ابديناك) العميق لقوة روح فرنسا التي تجمّعت في غرفة المعيشة تلك أمام الموقد، حيث يجلس هناك طوال الوقت العجوز وابنة أخيه صامتين.
تكمن صعوبة رواية (صمت البحر) في ضيق الحيز الذي تتحرك فيه الأحداث، حيث يتطلب ذلك جهدا خارقا من قبل المخرج، وكان هذا هو فيلمه الأول لكي لايقع فيما يمكن ان يفرضه هذا الحيز، وهو غرفة المعيشة هنا، ويتحول الفيلم بالتالي إلى مشهد مسرحي طويل لاغير.
لكن ميلفيل استطاع بجدارة أن يحرك الكاميرا بقدرة عالية مكنته من كسر روتين المشهد المتكرر، عبر لقطاته وزواياه التي اختارها، سواء تلك اللقطات التي تم أخذها للضابط وهو يتحرك في الغرفة، أو الزوايا التي أخذت منها ايضا هذه اللقطات وهي من الأسفل، حيث تظهر ضخامة جسده، مقابل تلك اللقطات التي أخذت من الأعلى للعجوز وابنة اخيه حيث تشير إلى وضعهم تحت قوة احتلال, إلا أن الكاميرا الذكية للغاية، لعبت دورهاكاملا في اصطياد كل لمحة ذات دلالة في وجوه الثلاثة وايديهم، ففي الوقت الذي كانت قوة الضابط الألماني صارخة عبر شكله الخارجي، كانت الكاميرا تقتنص بذكاء ضعفه الداخلي، وعكس الأمر تماماً كان يحدث مع العجوز والصبية.
كما أن الكاميرا استطاعت ان تدخل بجدارة لعبة التفاصيل ذات الدلالة, فالضابط يتكلم في لحظة ما، وعلى النار يتصاعد البخار من وعاءين أحدهما أكبر من الآخر، كما أن حياكة الصوف التي تمارسها الصبية على مافيها من روتين الغزل تتحول إلى حالة إصرار أيضا، وكذلك غليون العجوز الذي يوحي بثقة مطلقة.
وهكذا، فالاحتلال الذي يهدف الى تدمير روح فرنسا، يكون عاجزاً في الحقيقة عن تدمير الروح الساكنة في إحدى غرف مواطنيها، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن المواجهة في الغرفة تتم بين العجوز والصَّبية من جانب والضابط من جانب آخر, وليس بين الضابط ومجموعة من رجال ونساء المقاومة الفرنسية, فلاشيء أمامه هنا سوى الشيخوخة والرقة!!
من هنا، فإن هذا الضابط، الموسيقي أصلاً، لايملك أخيراً إلا أن يقول: أنا سعيد لأنني وجدت هنا رجلاً مسناً عزيز النفس وآنسة صامتة.
لكن طيبته التي تطرح معادلة (القاتل الضحية) أو (الوجه الجميل للمحتل القبيح) لا تخفي طموحها:( يجب التغلب على هذا الصمت,, يجب قهر صمت فرنسا), إلا أن ذلك لايتم.
وحدها الساعة تواصل دقاتها الرتيبة، الساعة التي تلعب غالباً دوراً مهما في رسم ملامح سير الزمن الثقيل في الأعمال السينمائية والروائية على السواء، أما العجوز فصامت، وكذلك الصّبية, لكن الفيلم وهو يقدمهما بهذا التجهم الواثق اللامبالي بكلام الضابط وهو امامهما، لايستطيع إلا أن يقدم لمحة إنسانية في شخصيتها، يهمس العجوز بعد مغادرة الضابط للغرفة: (قد نسيء إلى الإنسانية إن نحن رفضنا أن نمنَّ عليه بكلمة واحدة), أما الصبية فلاتمنحه سوى نظرة وحيدة فقط حين ترفع عينيها وتحدق في وجهه لحظة ثم تعود للحياكة.
ولعل أكبر هزيمة يحس بها الضابط، هي تلك التي تتبدى أمامه وهو يحدق في رف الكتب، مطلقاً معلقة مديح كبرى للإبداع والكتابة عبر إحساسه بالضآلة أمام التراث الفرنسي: البريطانيون يفكرون فوراً ب(شكسبير)، الإيطاليون ب (دانتي) الإسبانيون ب (سرفانتس) أما نحن فنفكر حالاً ب(جوته) وعلينا أن نبحث طويلاً عن الاسماء, أما اذا قيل: ومن نذكر في فرنسا؟ عندئذ، من يبرز في الحال؟ موليير أم راسين ام هوغو أم فولتير أم رابليه أم من غيرهم؟ فهم يتدافعون وكأنهم حشد على مدخل مسرح).
فيلم (صمت البحر) فيلم آسر وجميل، حافظ تماما على صمت الرواية ولم يخدشه، حتى لكأن لجوء المخرج لصوت العجوز الذي يسرد أويتذكر من خارج الكادر، قد عمق اكثر قيمة الصمت وهو يجسدها, أما الضابط الذي تكلم كثيراً والضابط المعذب بين ما كان وما اصبح فإنه يختار في النهاية الذهاب إلى الجبهة بعد أن قهره الصمت :( أنا راحل إلى الجحيم) يقول, وهكذا فإن خياره لم يكن أقل من محاولة انتحار فيها خلاصه الوحيد.
اما الكلمة الوحيدة التي يسمعها، وتجيء ، على لسان الصبية: وداعاً.
عمل مقاوم باهر عن المقاومة، معجزته أنك لاتسمع خلاله طلقة واحدة.
|
|
|
|
|