| عزيزتـي الجزيرة
أمام زحمة القيل والقال حول موضوع العولمة، يقف الكثيرون مثلي، صموتا حياداً حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
في هذه السطور لن أتكلم عن العولمة ولا عن غرابيلها التي يثرثر بها مثقفونا، ولكن سأتحدث عن أحاسيس وواقع شخص بسيط يهمه بالدرجة الاولى قوت عياله والدار الآخرة،ويظل متسائلاً كالعديدين من طبقته حول العولمة التي (صكت رأسه) ولا يدري ما يفعل بشأنها.
العولمة ما هي بالضبط؟!
لا تسخر ياعزيزي القارئ إذا قلت لك ان هذا ما تساءلت عنه زميلتي في الجامعة، وكأنها تطلب منا زميلاتها فتوى حول هذا الكائن الغريب.
الحق أن لفظ العولمة يفضي بمعناها الاصطلاحي الذي يدور حول تبادل الثقافات بين الأمم، وأيا اختلفت التعاريف فلفظها يوحي بمعناها المثالي دون الواقعي، وضع تحت الكلمات الثلاث الأخيرة عددا من الخطوط لأنها هي لب الموضوع، ذلك أن معناها المثالي يقتضي سياسة هات وخذ، كمثال بسيط ومضحك: تقتضي العولمة أن يلبس الأمريكي شماغا وعقالا مع بنطال جينز، ويلبس الخليجي مع ثوبه الأبيض قبعة كاوبوي!
تعال معي يا قارئي وانزل معي إلى الشارع وادخل البيوت واستشرف ماوراء المراقب لنتفق على تعريف أكثر دقة وواقعية للعولمة، بل ولنصطلح معا على مصطلح آخر مناسب لذلك الواقع سوى هذا المصطلح.
عندما تنطلق بسيارتك في بداية مشوارك اليومي، ثم تمر على محطة الوقود، ماذا ستفعل؟ أنت سوف تطل من نافذة سيارتك هاتفا: ثلاثين ريال بنزيم سديق, وان كنت من الناس (التوب) فسوف تقول: ثيرتي ريالز بليز.
بمعنى أنك لن تقول: عطني بنزين بثلاثين ريال لو سمحت,, أما سالفة: أريد وقودا بثلاثين ريالا,, فينطبق عليها المثل: عساها بحملها تثور!
عندما يطلب منك أولادك أن يتعشوا خارج البيت، ماذا ستكون أفضل وجبة غير شطيرة ماكدونالدز أو بيتزا هوت؟
عندما تتصفح الصحف، افتح صفحة الإعلانات، هل سترى غير الإعلانات عن مستحضرات التبييض وصبغ الشعر بالأصفر والرمادي والليلك؟ تلك الألوان ألوان شعر من ؟ بل طالع فتيات الإعلان غاضين النظر للأسف عن الحكم الشرعي لظهور تلك (الخشش) المبتسمة هل ستجد منهن سوى شقراء بخصل شعر متطايرة (كسنابل تركت بغير حصاد)؟ وعندما تضع في عين اعتبارك أن المعلن يهتم لرصف كل ما من شأنه أن يرضي المستهلك ويثير اعجابه وشهيته للشراء، فسوف تدرك حتما ان هذه الأشكال من فتيات الإعلان هي بالضبط ما يريده المستهلك.
أدخل أخيرا إلى أحد التجمعات النسوية، واسمع الثرثرة البريئة التي تبلغ الأحاديث عن العطر (الباريسي) والروج (الشانيلي) فيها نسبة 70%، بل لاحظ كيف تنسحق الحروف على شفاه نساء آخر زمن,.
على الضفة الأخرى ألم تسمع معي بالقانون,.
طبق في فرنسا والذي ينص على تغريم كل من يتلفظ بكلمة غير فرنسية باعتباره مسيئا في حق وطنيته؟! وهل يمكن تجاهل ما يفعل المتطرفون الألمان بحق الأجانب خصوصا إذا كانوا مسلمين (عربا أو أتراكا أو قبارصة) أو زنوجاً أو يهودا؟ أو ما يمارسه الأمريكان إلى الآن بحق الزنوج والملونين؟
هذه النماذج وغيرها تدعونا ياعزيزي القارئ إلى التساؤل بمنتهى الجدية:
حتى متى نخدع أنفسنا بمصطلح العولمة ومفهومها الشديد المثالية الذي يتنافس مثقفونا في تحديده؟!
في الواقع هي ليست عولمة، لأننا نرى ونسمع وجهة نظرهم حول ثقافتنا، وبالمقابل نرى ونسمع كيف تهفو أفئدة الناس صوب الديار التي يسكنها زرق العيون شقر الرؤوس، ونرى ونسمع كيف شغفنا بهم وبمن يشبههم من أبناء أمتنا، لذلك أكرر أنها ليست عولمة، بل هي (أمركة) بزنة فعللة لكل من يخفق قلبه طربا ورهبة لرؤية العلم المخطط بالأحمر ذي النجوم، ولكل من يمدح شخصا بمكارم الأخلاق والتمدن والتطور بل والكرم والشجاعة بأنه (أمريكي)!
وهي (أورَبة) لكل من يرى التمدن في التشدق بالانجليزية والفرنسية وو,,, ولكل من يرى التمدن والثقافة في التبحر في أدق تفاصيل حياة (أنجلو) و (دافنشي) والتفنن في التمثل بأساطير الرومان والإغريق وخزعبلاتهم البراقة في هرائه الذي يدعوه نثره أو شعره، أو يراه في العيش بين روايات (هوجو) و(ديكنز)،وأفكار (ماركس) و(نيتشه)، ولكل من يحس الغبطة والحسد عندما يقابل أو يرى السحنات الشبيهة بالدراق المنتفخ المعدل وراثيا، ويدعوها اعتقادا أو تقليداً (خواجات).
وهي (أجنَبة) لكل من يرى أنه يعيش داخل بلاده في قوقعة ظلماء يحيطها النور، فمثل بلاده في حالته كمثل الثوم المسكين مأكول مذموم، فالأجنبي هو (الزين) دائما، ويبقى الوطني في مصاف (يارجال عطه الخامس)!
كل هذه المصطلحات تعبر عن واقع التبادل الثقافي بيننا وبين الأمم التي نراها من ضعف هممنا وأنفسنا أعلى منا، الواقع الذي يدور في فلك (الهات) ، في عقلية أمة أدمنت الانبهار بكل ثقاة إلا ثقافتها هي,.
من المضحك المبكي انه حتى الأمم التي لم تقدم شيئا يذكر للإنسانية والحضارة أصبحت تجد نصيبها من الانبهار في عقولنا الرميم، ففي حفلة عرس في الرياض مثلا، زفت العروس على أنغام (هاواي)،ورشت على المدعوات أصداف البحر ورماله، وسط جو من نسائم البحر، وهالة ضخمة من الانبهار واختناق رهيب للهوية والانتماء.
ياقدمكم!!!
هذه النماذج المفجعة لعملية الشفط المجنونة في عقلياتنا، وعملية الضخ الماكرة من ثقافة الغير، ليست وليدة الساعة والسنة بل والعقد، ولم نشاهدها في مكان واحد فقط، انها مسلسل جرى ولا يزال يجري في كل دول العالم الإسلامي إلا ما رحم ربي، منذ أن ذاقت امتنا الهوان، واعتادت مضغ الذل ودوس الكرامة,.
السؤال الذي دار في ذهني بعد ان عرفت معنى اصطلاح العولمة:
لماذا لم ينتبهوا لهذه القضية إلا الآن؟؟!!
القضية قديمة ومتوغلة في شرخ أمتنا النازف، ولذلك أعيد سؤالا سابقاً:
حتى متى نخدع أنفسنا بالتعريف المثالي للعولمة؟ ولماذا نتصور ان ثقافات الغير ستأخذ من ثقافتنا بالقدر الذي نأخذ من ثقافتهم؟ ثم تدعو ذلك عولمة وتعلنها بين العالمين: أننا اخذنا من ثقافة غيرنا يا عالم ياهوه؟!
لأي شيء يحتاجون من ثقافتنا؟ ولعنا بالثرثرة العقيم؟ ولعنا بالشحناء على أدق التفاصيل؟ أم ولعنا بجلد ذواتنا واحتقار أنفسنا أمام أنفسنا باسم إرادة الحق؟!
الثقافات التي تمجدها بالوناتنا الغبية لا تحتاج في الظاهر إلى شيء من ثقافتنا بالذات ترتق به نقصها الفظيع الذي تخبئه على عكسنا تماما في ازقة الجريمة وبؤر الفساد والفقر والجراثيم، وهي ثقافات تضخ دون أن تستورد ولئن استوردت فهي لا تفصح بذلك، أما نحن فنشفط ونشفط حتى نصحو يوما لنجد أنفسنا عاجزين عن الحراك والشفط، وحينئذ فقط ستحلو وتكتمل جوقة السخرية والتندر والتشهير، حينئذ تماما!!!
وينك ياابن خلدون؟؟!
حتى ترى هذه الغباء (المدقع) والمفجع في مواجهة نظريتك حول الغالب والمغلوب؟؟
مساكين أبناء امتنا عندما يظنون ان ثقافة الغير تمجد ثقافتهم وتستورد منها في الوقت الذي لا تألو فيه ثقافة الغير جهدا في استنزاف ثقافتنا وسرقة ما ثقل وزنه وغلا ثمنه ثم تجاهل ذلك تماما، وتصيد أخطاء وحوادث فردية سلبية لتصبح مظاهر بل وسمات وخصائص من خصائص ثقافتنا، وبفضل فرضهم الوصاية على كل ثقافات العالم، أصبحت حضارتنا المجيدة التي كانت أكثر حقب التاريخ إشراقا مجرد تجمع من الراقصات والجواري والقيان والمردان.
الحق ان بعضنا ممن ضاق ذرعا بهذا الواقع الممض، آثر الاستسلام لحلم جميل بيوتوبيا حلوة، ينتشر فيها السلام وتصبح القلوب كل القلوب بيضاء والعالم كله مثل قرية الأقزام السبعة الجميلة، حتى الحيوانات تفهم البشر وتساعدهم، لاحقد ولا بغضاء، أما الملكة الشريرة فقد ماتت قبل أن يبدأ الحلم.
خرجوا علينا قريبا بنظرية (اللامؤامرة) واستطاعوا ان يقنعونا بأن ثقافة الغير لا تكيد للإسلام وأهله، وأن لا مصلحة لهم من ذلك, وأقنعونا بتصور مضحك للمؤامرة يتمثل في طاولة مستديرة يصطف عليها عدد من الشياطين بقرون مدببة وأذناب طويلة تتشاور في فزع وتصرخ في مسرحية بأنها تريد هدم الإسلام!!
وكاستطراد: أود أن أضيف لمقدمة ابن خلدون هذا الفصل: عندما تريد تشويه مبدأ حقيقي واقعي في ذهن معتنقه فما عليك سوى تصويره بصورة مضحكة غير واقعية وساذجة، وسيتراجع عنه صاحبه غالبا، وهذا التراجع ليس لأنه غير مقتنع به وليس لأن المبدأ غير صحيح، بل لأنه فقط (طاح من عينه)!
قال تعالى :وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن، والغوا فيه لعلكم تغلبون ,(سورة: فصلت 26).
الحق ياعزيزي القارئ أن أبناءنا ينبهرون (تطبيقا واقعيا لناموس كوني اكتشفه (ابن خلدون) بثقافة الغير، ويزدادون إلا من رحم ربي بعدا عن خصوصيتهم وشكا في أفضليتهم وموقعهم على خط الحضارات وتزعزعا في ثقتهم بأنفسهم.
هذا ما تراه وأنت في السوق عندما ترى الأولاد (بالتكاميل والقبوعات) أو القصات الفرنسية والمارينزية، وأسوأ منهم من يرتدي الثوب الأبيض مع (القبوع),.
وهو ما تراه على صفحات الجرائد عندما ترى من يرى نفسه مثقفا و (يتضبط) بصورة هيمانة حالمة تذكرك بأسلوب (روميو)، ويرصف لك كلمات (طنت) في باله لحظتها، ويزينها في نظره أسماء آلهة الأغريق وأبطال أساطير الرومان أو أبطال روايات غربية هذا هو المهم ليخرج لك شخبطة بغيضة مريضة أسوأ من هذيانات اللاوعي يسميها ثقافة وأحيانا (حداثة)!
بل وما تراه في مجتمع النساء وحيث الشاطرة هي من تبرز اكبر مساحة من جسمها، والشاطرة هي من تنجح في سلخ اللحم عن جسدها لتبدو مثل (كاترين جونز) ومثل (كلوديا شيفر)، ولا تستحي الكثيرات الآن كما لم يستح الكثيرون من قبل من الإفصاح والإعلان عن مواصفات فتى الأحلام الذي يشبه في زرقة عيونه وشقة شعره (جورج مايكل) وفي وسامته (ميل غبسون) وفي نعومته (ريكي مارتن) كما أفصحت بذلك احداهن باسمها الحقيقي كاملا وفي تحقيق صحفي في جريدة محلية.
وإذا اخذت في عين اعتبارك أن هذه الامثلة ما هي إلا صورة مصغرة لآلة ضخمة من الشفط الشره غير المنظم تشتغل في مجتمعنا بكافة طبقاته، فسوف تعيد نظرك في الفكرة المثالية اليوتوبية التي يطرحها بعض مفكرينا وهي أخذ الإيجابي دون السلبي من ثقافات غيرنا.
بالنظر لنفس الفكرة لا يجادل أحد في أنها حميدة ورائعة دعا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها , ولكن ألم تفكر معي مرة بهذه الملاحظة الشديدة الواقعية، وهي أن ما يحصل في مجتمعنا هو العكس حيث تؤخذ السلبيات وتترك الإيجابيات؟
البلاء في العقلية ياناس!!!
لأن العقلية الذكية أيا كان دينها ستبحث عن ما يجلب لها الخير والسعادة، والعقلية المسلمة مطالبة بتلك الطريقة التفكيرية أكثر من غيرها، ذلك لأنها العقلية الوحيدة التي كلفت بحمل الرسالة وتلبيغ كلمة الحق إلى العالم، لذلك كله لا بد ان نوقن تماماً بمسؤوليتنا التامة عن ما يحصل لديننا وأمتنا من أحداث إننا على ثغرة لا بد أن لا يؤتى الإسلام من قبلها.
كيف تواجه شخصا بعقلية لم تفهم حقيقة الإسلام ولا تريد ان تفهم؟ وتطالبه ان يأخذ الإيجابي ويترك السلبي من ثقافة بهرته حتى الصميم حتى عاد يرى سلبياتها (مثل الخال في خد المليحة)؟!!
عندما توفيت ديانا وعماد الفايد، لماذا وجدنا من يلعن دودي المسلم وهو هشيم في قبره، وبالمقابل وجدنا نفس الشخص يترحم على ديانا النصرانية ويجمع صورها؟!!
أوليس هذا دليلا على سرطان رهيب يعيث في عقولنا؟! هذه العقلية كالحلقة المفرغة كيف ستدخل إليها؟!!
لذلك يا قارئي لن أعطيك حلاً، فأنا أعلم أن صوتي لن يهدم باطلا ولن يحق حقا لكنه من قبيل قول الحق اني آمنت بربكم فاسمعون (يس 25).
موضوع العولمة لن يعالج بمقال أو ندوة أو بحث، من يريد تفعيل موضوع العولمة بالشكل الذي يخدم أمة الإسلام ولا يضر خصوصية ثقافتها عليه أن يمد يديه برغم الأشواك إلى جذور البلاء في عقلياتنا التي تفتحت على تقديس واحترام كل ما هو اجنبي والوثوق به، ويعمل على إنتاج جيل يفهم الإسلام كما يجب ان يكون الفهم، ومن ثم يخاطبهم بما يريد من المبادئ، هذا الجيل وهو جيل النصر الموعود هو الذي سيمحص الحق ويعلم ما هو الباطل دون تحذير، وهو الذي سيفرض على غيره احترام ثقافته، وهو الذي سيحمل مشعل النور والهداية ويرفعه أعلى مما يرفع تمثال الحرية مشعله، هو الجيل الذي سيطبع الإسلام بصورته الوسط النقية بعيداً عن جفاء الجافين وغلو الغالين، وحينها يحق لنا أن نصفق لهذا الجيل بكل قوة وإعجاب ونحن نراه هو الذي يرفع شعار العولمة هذه المرة ويطبعها بطابع دينه وصراطه المستقيم لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (البقرة 143).
كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (إبراهيم 1).
بدرية العبيد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
|
|
|
|
|