| الثقافية
عدت مؤخراً إلى المملكة بعد فترة اغتراب في الولايات المتحدة دامت خمس سنوات، مررت خلالها بالعديد من التحديات فيما يتعلق بالدراسة الأكاديمية والبحث العلمي، وتعرضت خلالها للعديد من المواقف القاسية والمحرجة أحيانا فيما يتعلق بمحاولة التفاعل مع الحياة العامة, وقد مرت التجربة بسلام، وتوجت بحصولي على الدرجة الأكاديمية التي ابتعثت من أجلها.
ولكني كنت أشعر طوال تلك المدة بأن هناك شيئا مفقودا، شيء كبير جداً لا يعوض عنه جمال الطبيعة في الوسط الغربي الأمريكي، ولا يُغني عنه توفر النشاطات الترويحية التي تنتشر إلى حد الاختناق في تلك الديار, إنه الشعور بأهلية المكان، الشعور بالارتباط بالأرض، الشعور بقيمة الذات، باختصار: ذلكم الشعور الذي لا نجده إلا في الوطن.
يشعر الإنسان في الغربة بثانوية مميتة، حتى وان اتيحت له كل سبل التفاعل مع النشاطات الفكرية، والمؤثرات الاجتماعية, ويبقى الغريب وإن طال مكثه ذابلاً تبدو عليه وعثاء السفر، وتعج في أعطافه رائحة أرض أخرى، ويحيط به هالة شاحبة تقول إنه غريب.
والإنسان في الغربة أشبه ما يكون بشجرة اجتثت من أرضها الأصلية، ومن بيئتها الطبيعية ثم زُرعت في أرض غريبة، وبيئة مختلفة, فتراها وإن وُفِّر لها الماء والغذاء شاحبة كسيرة، يمكن تمييزها بسهولة عن ما جاورها من الأشجار, بل قد تكون كثرة الماء والغذاء سبب ذبولها وربما موتها، ذلك لأن تكوينها الأساسي لا يتناسب إلا مع بيئتها الطبيعية وفق نسب محددة من الماء والغذاء, وتخيلوا نبة عرار في غابات الأمازون!
إن ما يربطنا بالأرض هو ذلك الشيء نفسه الذي يربط الأشجار ببيئتها, إنها الجذور.
فالجذور هي التي تساعد الأشجار على الوقوف، والإنسان بدون جذور لا يستطيع الوقوف صدقوني ,,انه لا يستطيع الوقوف.
الشجرة في موطنها الأصلي تبدو شامخة مطمئنة، تظهر عليها علامات الرواء والنماء.
والإنسان في موطنه شامخ أبيّ، يفيض ثقة وطمأنينة, ولذلك لا غرو أن يهيم الغرباء بأوطانهم حتى وإن تيسر لهم من رغد العيش، وسعة الرزق مالم يجدوه في تلك الأوطان.
يقول يحيى السماوي (1) .
جف الضياء بمقلتي واستوحشت أهدابها -في الغربتين (2) جفوني ليلاي ما شرف القطاف إذا استحى من طين جذر وانكسار غصون؟ لو كان لي أمر المطاع من المنى أو كانت الأحلام طوع يقيني: أبدلت بالأضلاع سعف نُخيلة وبعشب أحداقي حثالة طين وبرنة القيثار نوح يمامة وحصير أحبابي بكأس لجين |
د,سعد بن هادي القحطاني معهد الإدارة العامة الرياض
(1) المجلة العربية ، العدد 278، ص24.
(2) المقصود بالغربتين غربة الأرض، وغربة اللغة.
|
|
|
|
|