| مقـالات
منذ حوالي 10,000 عشرة آلاف سنة انتقل الإنسان من مرحلتي الجمع والصيد، وبشكل متزامن، إلى مرحلتي الزراعة والرعي، وذلك بعد أن نجح في تدجين بعض أنواع النباتات، وخصوصا الحبوب، واستئناس الحيوانات، بما فيها الضأن والماعز والبقر والحمير والكلاب. لذا نستطيع القول إنه منذ أن تجاوز أهالي الشرق الأدنى مرحلة الجمع والصيد وهم منقسمون إلى فلاحين يحرثون الأرض وإلى رعاة يقومون على تربية قطعان الماعز والضأن ويزاحمون الفلاحين على موارد المياه والأراضي الخصبة. أي أن ظهور الرعي كان متزامنا مع ظهور الزراعة ولم يكن سابقا له وممهدا لوجوده. أما البداوة بمفهومها العربي الذي يشير إلى رعاة الإبل الذين يعيشون حياة الحل والترحال ويتوغلون في البيد والقفار فإنها لم تظهر على مسرح التاريخ إلا بعد ذلك بآلاف السنين، ذلك أن استئناس البعير لم يتيسر إلا منذ حوالي 4,000 أربعة آلاف سنة، وكانت البداية، كما يقول ريتشارد بولت Richard W. Bulleit، في منطقة حضرموت وما جاورها حيث تم استئناس البعير هناك كمصدر غذائي وليس كوسيلة للنقل والسفر. وبعد أن نشطت تجارة البخور، التي كانت في البداية في يد أهالي حضرموت، بين جنوب الجزيرة وبلاد الروم ومصر وبلاد الرافدين ظهرت أهمية هذا الحيوان كوسيلة للنقل وحمل البضائع بعد أن كان مجرد مصدر للصوف واللحم والحليب. وبعدما أدرك الساميون في شمال الجزيرة أهمية تجارة البخور بدأوا زحفهم التدريجي إلى جنوب الجزيرة حتى تم لهم بسط نفوذهم هناك وسيطروا على تلك التجارة. وعن طريقهم تم نقل البعير من جنوب الجزيرة إلى شمالها في القرن الثاني عشر قبل الميلاد وبدأ توطينه هناك.
لقد أحدث استئناس البعير نقلة نوعية وتحولات جذرية في تنظيم المجتمعات الرعوية، واعترافا من البدو بأهمية الإبل في حياتهم يسمونها عطايا الله الإبل جعلت من البداوة أمرا ممكنا وضروريا في نفس الوقت. يضطر البدو إلى التوغل في القفار بحثا عن المراعي لإبلهم التي بدونها لا يستطيعون التوغل في القفار. تفوق البعير على باقي وسائل النقل وكفاءته كأداة للركوب وقدرته على حمل الأثقال مكنت البدو من التوغل بعيدا في الصحراء واستغلال موارد رعوية لم تكن متاحة لهم من قبل. أعطت الإبل البدو القدرة على الحركة السريعة وقطع المسافات الطويلة مما ضمن استمرارية الاتصال وكثافته بين الجماعات المتباعدة. قبل استئناس البعير واستخدامه كوسيلة للنقل والركوب، لنا أن نتصور صعوبة الانتقال والحركة على المجموعات الرعوية البسيطة التي لا تملك إلا الشاء والماعز وليس لديها من وسائل النقل إلا أبدانها وبعض الحيوانات التي ليست لها كفاءة الإبل، مثل الحمير. عدم وجود الإبل يقف عائقا دون الاتصال والتنسيق بين الجماعات المتباعدة التي تفصلها مسافات الصحراء البعيدة المهلكة ليشكلوا مع بعضهم البعض جماعة أكبر وقوة أخطر لأغراض الهجوم أو الدفاع. وقد تحدث مصادمات بين الجماعات الرعوية على الماء والمرعى ولكن قبل استئناس الإبل لم يكن من الممكن شن الغارات والغزوات للكسب والاستيلاء على قطعان الاخرين وسوقها والهرب بها في مجاهل الصحراء.
وتزداد أهمية البدو مع ازدياد أهمية الإبل كوسيلة من أنجع وسائل النقل والمواصلات عبر الطرق الصحراوية، حتى أنها استطاعت أن تكتسح العربة التي اختفت تماما من الوجود. وتشير الشواهد الأثرية إلى أن الآشوريين في الفترات الأخيرة من حكمهم الذي انتهى مع نهاية القرن السابع قبل الميلاد استخدموا الإبل في أغراض النقل وفي الأعمال العسكرية. ومنذ ذلك التاريخ أصبح البدو من أهل الإبل المتمرسين بركوبها يشكلون فرقا في جيوش الإمبراطوريات والممالك في ذلك الوقت مثل الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية. ومما عزز من مكانة البعير في شمال الجزيرة ظهور مملكة الأنباط العربية، التي يمتد تاريخها من سنة 300 ثلاثمائة قبل الميلاد حتى سنة 105 مائة وخمس بعد الميلاد، ومن بعد ذلك مملكة تدمر.
وقد توثقت علاقة الأنباط والتدمريين بإخوانهم وأبناء عمهم من البدو رعاة الإبل في الصحراء العربية الذين كانوا يستعينون بهم في نقل البضائع على إبلهم وفي حراسة القوافل مما فتح الباب وأفسح المجال أمام أولئك البدو أخيرا لاحتكار وسائل النقل والاستحواذ على الحركة التجارية والحصول على الثروة التي مكنتهم من اقتناء السلاح وأسباب القوة بعد أن كانوا جماعات مستضعفة لا حول لها ولا قوة تعيش على هامش الحياة الاقتصادية والسياسية.
ومع ازدياد فاعلية الإبل كوسيلة من وسائل الحرب بدأت تبرز أهمية البدو ويشتد بأسهم وبدأ الحضر والفلاحون يستشعرون قوتهم ويدركون خطرهم.
وكانت مملكة الأنباط في أوج قوتها قادرة على كف أذاهم ومنعهم من الاعتداء على الحواضر والقرى الزراعية.
ولكن بعد أن قضى الرومان على الأنباط واحتلوا عاصمتهم البتراء عمت الفوضى جزيرة العرب واحتد صراع القبائل البدوية فيما بينها وبين بعضها وكذلك فيما بينها وبين الفلاحين، وصار البدو يفرضون الأتاوات على القبائل الضعيفة وعلى الفلاحين وعلى المسافرين والقوافل التجارية التي تمر عبر ديارهم. وليس من المستبعد أن من أهم الدوافع وراء نشوء الغزو وأعمال السلب والنهب هو محاولة القبائل القوية احتكار وسائل النقل التجاري، الإبل، ومنع القبائل الأخرى من امتلاكها بأعداد تمكنهم من دخول المنافسة، وكذلك إجبار القوافل التجارية التي تمر عبر ديارهم من دفع الإيلاف أو الخاوه وإلا تعرضت للنهب والسلب.
ولم يتحول البعير إلى مصدر قوة حقيقية للبدو وعامل حاسم في صراعاتهم الحربية إلا بعد أن اكتمل تطوير النوع الملائم من الأشدة وذلك لم يتم إلا منذ أقل من ثلاثة آلاف سنة. استئناس البعير في حد ذاته لا يكفي ليجعل من البدو قوة ضاربة تهدد الفلاحين والحضر وتسيطر على الطرق التجارية.
كان لا بد لهم، إضافة إلى الإبل، من تطوير صناعة الأشدة وأدوات الركوب. يرى Bulliet أن أول نوع من الأشدة تم اختراعه هو ما نسميه الآن الحداجه أو الهولاني الذي ظهر أول ما ظهر في جنوب الجزيرة ولا يزال شائع الاستخدام هناك. ويمكن استخدام هذا النوع من الأشدة في النقل والأغراض السلمية لكنه لا يلائم الأغراض الحربية مثل الشداد الذي طوره عرب الشمال في فترة متأخرة. استئناس البعير واختراع الشداد من المنجزات الحضارية التي ساهمت بها ثقافة البدو وشكلت قفزة تكنولوجية لا يستهان بها في تاريخ الجنس البشري
. وهذا في حد ذاته يغني للتدليل على أنه من الخطأ معادلة البداوة بالبدائية التي لا تمتلك الخبرات الواسعة ولا المعارف التقنية ولا القوة التخيلية التي تمكنها من الربط بين هذه الخبرات والمعارف للخروج بمنتج على هذا المستوى التقني الرفيع.
ومن مكملات هذا المنجز الحضاري اكتشاف العلاقة التكاملية بين البعير والحصان. وقد لاقى هذا الاكتشاف نجاحا كبيرا بين عرب الصحراء حتى أنه أصبح لا غنى للبدو عن الخيل في حروبهم وغاراتهم وأصبحت الخيل مصدر قوة القبيلة ورمز عزتها الخيل عزٍّ للرجال وهيبه ، وصارت تقاس قوة القبيلة بعدد خيلها التي يسمونها السبايا لأنها الأداة التي تمكنهم من السبي. استطاع البدو توظيف علاقة الاعتماد المتبادل بين البعير والحصان ليجعلوا من الحصان بسرعته الفائقة مكملا للبعير بصبره غير المحدود وقدرته على التحمل وحمل الأثقال. الإبل جعلت من تربية الخيل في الصحراء والاستفادة منها في الهجوم والدفاع أمرا ممكنا. بدون الخيل يصعب على البدوي الدفاع عن إبله واستنقاذها من الغزاة. وبالمقابل تحصل الخيل على معظم غذائها من حليب النوق. يقول عمرو بن براقة:
غبرت خيلنا نقاسمها القو ت ولم يبق حاصد المحل عودا شتوة توسع الجمال لها الرس ل ونسقي عيالنا تصريدا |
ويقول جرير:
نعشيها الغبوق على بنينا ونطعمها المحيل على الصفار |
ويقول مشعان بن هذال:
ياسعيد بدّوا بالغبوق الكحيله قم بدّها بالبر قبل العيالِ احلب لها الشقحا الشناح الطويله لعيون بيضٍ نقّضن القذالِ |
ويقول عبدالله بن هذال:
مرجان كرّب سابقي في جلاله واحلب لها من درّ ذودٍ خواوير |
ويقول هادي المسيحير المعيضي العجمي:
قال ابن مرزوق الذي له حصانِ من خيل نجدٍ طيّباتٍ عموقه منايحه من جل ذودي ثمانِ ما حن نذوق الا شرايد غبوقه |
ويقول أحدهم:
أبدّيها ولا ابدّي عليها سوى الضيفان في عسر الليالِ |
وفي الغارات البعيدة لا تستطيع الخيل نقل راكبيها هذه المسافات الطويلة، كما أنها، بخلاف الإبل، لا تستطيع الصبر عن الماء والغذاء لمدة طويلة خلال الصحاري المقفرة ومساحاتها الشاسعة. لذا يحتاج الغزو البعيد إلى إبل لحمل الماء والحشيش أو الشعير للخيل، وهؤلاء يسمون زماميل ، وإبل أخرى، ركايب أو جيش ، يمتطيها الغزاة مستجنبين خيولهم التي لا يعتلون ظهورها إلا حزّة الغاره يقول ساجر الرفدي:
ياما حلا المسلاف باوّل ظعنها مستجنبين الخيل يبرا لهن خور |
|
|
|
|
|