أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 21st August,2000العدد:10189الطبعةالاولـيالأثنين 21 ,جمادى الاولى 1421

مقـالات

وعي الذات والآخر طريق الفاعلية (4/6)
د, حسن بن فهد الهويمل
إن هناك خلافات حقيقية وتباينات لامجال لانكارها، وهناك أشياء وهمية صنعها الأعداء وصدقها المغفلون، ومن الوعي أن نستبين هذا وذاك وألا نغالط أنفسنا, والتباين القائم له أسبابه وتقادمه الزمني ومرجعياته التي لم تكن من صنع أيدينا، ومرد ذلك التباين وهذا التناحر لأمور كثيرة، قد نتناول طائفة منها في بحثنا هذا, ومع ما يعانيه البعض من ظلامية مستحكمة، وتشاؤم متفاقم، فإن الخيرية مازالت قائمة، واليأس والإحباط لا يحلان الاشكالية,، نحن بحاجة إلى وعي الاشكاليات الوهمية والاشكاليات القائمة بالفعل في الساحة العربية، والعمل على محاصرتها، وإيجاد الحلول الحاسمة أو المرحلية لها، ولا يجوز أن نتلاوم، ولا أن نمارس التيئيس، والاحباط, كما أننا وفي إطار الوعي المطلوب يجب أن نحدد حجم الإشكاليات في إطار تحديد حجم الامكانات لنضع أسلوب المواجهة ونرسم طريق الحل، فما نرفضه قد لا نكون قادرين على مواجهته، وما نوده قد لا نكون قادرين على تحقيقه، وهنا مكمن الوعي الحقيقي، ومن قواعد الشرع ألا يدفع الشر بما هو أشر منه، ومما لامراء فيه أن تعدد الخطابات السياسية، والدينية، والاجتماعية، والفكرية وتناقضها، وتناحرها، ورهاناتها تسهم على المدى الطويل في تشكيل ذهنية منحرفة، وبالذات في أوساط الشباب، الذين تشبه ذهنياتهم أراضي ميتة يشكلها من يسبق إلى حرثها واستنبات مايريد في تربتها, وغسيل المخ حقيقة لا مبالغة فيها ويكفي أن نستعيد مآسي الانتحار الجماعي الذي يدفع إليه زعماء دينيون تمكنوا من شحن العواطف وتشكيل الوعي، ومن ثم فإن الثورات والعنف والتمرد والمواجهات التدميرية لا تتم إلا على أيدي الشباب الذين صيغ وعيهم على شاكلة ما , ولست أشك أن فهم الحرية الخاطىء هو الذي أتاح التعددية المتناحرة للخطابات، وأتاح للتاريخ الفكري والطائفي والمذهبي أن يعيد تشكله من جديد، ومكنه من أن يفتح ملفات منتهية ليورط العالم الإسلامي في مواجهات وهمية, وإذ يكون من مصلحة الآخر سحب الملفات من كهوف التاريخ، فقد هيأ هذا الآخر الأجواء المناسبة لاشتعال الفتنة, وما يتطلع إليه المصلحون وقادة الفكر المستنير أن تمتلك طوائف المسلمين وعياً متكافئاً مع متطلبات المرحلة، لإيقاف هذا التدهور والنزيف، والحفاظ على بقية المكتسبات, ويتم ذلك بوعي الواقع الإسلامي وتعاقب الفترات المعتمة التي ضاعفت من مشاكله، وبطأت في علاجها، وليس من شك أن المشايعات والحزبيات واستغلال سذاجة المتلقي والنفاذ من خلال إثارة العواطف هي الأمراض التي يتضاعف من خلالها وهن الأمة, إننا نرى في عالمنا الإسلامي طوائف من الدعاة والمفكرين، يعملون لصالح أفراد ليسوا على شيء من الحق، وليسوا على شيء من السعي لصالح الأمة وجمع كلمتها، والتأليف بين قلوبها، ونبذ الحزازات والخلافات الهامشية أو الوهمية, وتكريس المذهبية، وتجريم الآخر لا يحل الإشكالية، وما نشاهده من اندفاعات طائشة ليس مؤشرا على وعي الذات ولا على وعي الآخر.
إننا لكي نشكل وعياً ملائما للواقع لابد ان نعي هذا الواقع، ومتطلباته وأسلوب التعامل معه، ولا يمكن تمام ذلك باستعادة حساسيات التاريخ وافتعال ظروفه التي كانت قابلة لتفجير الموقف إذ ذاك, إن السماح لكل خطاب ديني باسم الحرية إضاعة متعمدة لوحدة الأمة فكريا، ومنع كل خطاب بدعوى إغلاق باب الاجتهاد تفويت للمعايشة المتكاملة مع الآخر، وبين هذا وذاك تقوم محاذير لايعيها إلا أهل الذكر المتفقهون في الدين، وعلى ضوء ذلك فليس كل خطاب ديني يملك حق الممارسة لمجرد أنه خطاب ديني، لقد طرح أبو ذر رضي الله عنه خطابه حول الكنز، فما كان للخليفة عثمان رضي الله عنه بد من اسكاته، وهل أحد يشك في صدق أبي ذر؟ وفي الوقت نفسه، هل أحد يشك في سداد الرأي وحسن التصرف من الخليفة الراشد؟ تلك هي المعادلة الصعبة.
وفي هذا السياق فإن الانغماس وسط الخطاب التاريخي، واستحضار ملفات الأمس لتمثلها دون فحص، يعني قمع الذات المعاصر وحملها على تقمص الذات التاريخية غير السوية، واستحضار الدور التاريخي بكل نكساته, إن هذا التقمص المدان مغاير كل المغايرة لأسلوب الأسوة الحسنة، إن استعادة البطل تتطلب استعادة ظروفه التي كفلت له النجاح, والبطل الأسوة هو بطل القيم والمواقف، وليس بطل الممارسة التاريخية، والبطل لكي يحقق المثالية لابد أن تعود معه أمته التي هيأت له الأجواء، إذاً نحن بحاجة إلى أمة واعية تخلق بطلها، ولا تستعيده, لقد كان صلاح الدين بطلاً في إطار سياقات وظروف خاصة، ولو عاد اليوم على المغيرات صبحاً وتحت ظلال السيوف لكان متحفيا أكثر منه بطلاً مرتقباً لإقالة العثرة، والأمة اليوم لا تفقد البطل، ولكنها تفقد الندية مع الآخر، وتفقد الامكانات المتكافئة، والوقوف بانتظار البطل مضيعة للوقت، إن الخلل يمكن في التكافؤ الجماعي لا في مواصفات القائد.
إن وعي الذات الجمعية، ووعي الآخر، يمتدان ليشملا الأجواء المهمة في تشكل الذات الفردية والجمعية، ذات الأمة بوصفها شخصية اعتبارية، والآخر والماضوي الذي يشكل جذور الذات الجمعية الفردية والآخر المغاير، والمستقبلي الذي يشكل امتحان الذات والآخر, وعلى ضوء ذلك كله فإن غياب الوعي بكل اتساعاته ومفرداته واستيعاباته ليس مؤذناً بالضعف فحسب، وإنما هو فرصة لتشكل ذهني خاطىء، يعوق مسيرة الأمة، ويضعف مواجهتها, ففي فترات غياب الوعي السليم تجتاح الأمة موجات من السذاجة والبدائية، تتيح فرصاً للخرافة والشعوذة والسحر والغموض والأسطورة والحكاية الشعبية، وتتنامى في أوساطها الدروشة، ويكثر أدعياء التصوف، والأولياء، وادعاء الكرامات، وترقب مناقضة السنن الكونية، والاتكالية بدل التوكل وتتعدد الزعامات الدينية، وانشطار الذهنية، كما يستفحل الإدعاء والتعصب المذهبي وتقديس الذوات وتهميش القضايا، وتتحول الأمة من جد العلم إلى سيطرة الخرافة، ومن هيمنة العقل إلى هوج العاطفة، ومن مصدرية النص التشريعي إلى رأي الولي والزعيم، ومن الموضوعية إلى الخرافة، ومن العلم التجريبي إلى الحدس الصوفي، ومن المختبرات والمعامل إلى الشعوذة والسحر، مما يكون إرهاصاً لفساد الأمة وذهاب ريحها, وها نحن الآن نرى تدافعاً إعلامياً لإثارة قضايا كان يجب ألا يكون لها حضور في عصر العلم، والداخلون فيها لا يفرقون بين وجود الشيء بوصفه حقيقة دينية أو علمية، وصفته وامكاناته، ووقوعه كحدث, ف (الجن) مثلاً وجودهم حقيقة دينية، وتكليفهم حقيقة دينية، وسماعهم الرسالة وإيمان بعضهم وكفر البعض الآخر كل ذلك جزء من العقيدة، وإنكار شيء منه مخل بها، ولكن تلبسهم وتجسدهم وسماع أصواتهم وتزاوجهم مع البشر ضمن وقائع يتداولها الناس وفعلهم الموصوف المحدود خليط من الخرافة والتصور والأسطورة وليس التصديق أو التكذيب لشيء من ذلك داخل في الدين إذ يمكن أن يتسرب إليها الشك، فإنكار الواقعة شيء وإنكار الحقيقة شيء آخر، والبعض لا يفرق فمن أنكر رؤية الجن أو سماع صوتهم بوصف ذلك واقعة محكية حوسب كمن أنكر وجود الجن, وعالم الجن والملائكة بجملتهم من الغيب الذي يجب الإيمان به، وعدم الدخول في تفاصيله وتوصيف أحواله والتوسع في تصوره والإذعان للمشعوذين والتهالك على الأدعياء، ومدعي الورع, ونحن لم نتعبد بشيء مما يتجاوز حد الإيمان بما تضمنه النص القطعي الدلالة والثبوت إزاء عالم الغيب, والتورط في أمور السحر والشعوذة والجن والكرامات يخرجنا عن وعينا الحقيقي، وإذا كنا نحس باستفحال الحديث عن تلك الغيبيات بشكل لا يقتضيه الدين بين أوساط الدهماء والمتعالمين المنساقين وراء الرأي العام، فإننا نحس باستحضار مشبوه للحكايات الخرافية والأساطير الشعبية، من أمثال (الف ليلة وليلة) و(تودد الجارية) و(الهلاليين) وغيرها ومنحها مشروعية مرجعية ودعم القضايا الهامة ببعض تلك الحكايات، وكذلك التوسع في الاستعمال الأسطوري بما فيه الأساطير الوثنية, واستفحال الخرافات والأساطير والشعوذة وتعدد الآلهة وأنسنتها مؤشر على طفولة الأمة وبدائيتها ومؤذن بانقراضها واضمحلالها وإساءة للدين القائم على العقل والتفكير والتدبر والتفقه, ثم إن مسايرة الغرب في اختصار حضارة الأمة الإسلامية في الكتب والحكايات الخرافية دليل على ضعف الوعي للمكيدة، وأحدث الأندلس التي أضاعت ملكا اسلاميا حافلا بالفكر والأدب ومختلف المعارف ماثلة للعيان وقليل منا من يستعيد هذا التاريخ للاعتبار والاتعاظ.
لقد ظهر (ابن عربي) في الأندلس على سبيل المثال وبظهوره ظهرت الباطنية المناقضة للإيمان والوعي، وتفشت عقائد وتصورات مهدت للتناحر والتنازع وذهاب الريح، ومن عجب أن عالماً كالمقري في نفح الطيب يحمل كبر الدفاع عن هلوسات (ابن عربي) وإيجاد مخارج لها, إنه نوع من غياب الوعي، وواحد من أهم الأسباب التي ادت إلى سقوط الأندلس, ولربما صدقت مقولة: إن غرناطة سقطت تحت سنابك الجيوش المحاصرة لها من كل الجهات، وفقهاؤها في جدل حول البيضة والدجاجة: أيهما الأصل, هذه الحكاية تكاد تعيد نفسها في مواقع كثيرة من عالمنا الإسلامي، وسط أحداثه الدامية، وانكساراته المفجعة، إذ تعيش الأمة جدلا مملا حول قضايا لم تعد مجدية، قضايا لعبت دورها منذ زمن، وأصبحت بكل مفرداتها جزءا من التاريخ المدان, ومع شديد الأسف، فإننا نطلق على هذا التاريخ التاريخ الإسلامي والحق أنه (تاريخ المسلمين) الأمر الذي أتاح الفرصة لغلاة العلمانيين لمحاكمة الإسلام من خلال تاريخ المسلمين، كقراءة بعضهم تاريخ الأمويين والعباسيين على اعتبار أنه وثائق لمحاكمة التجربة الإسلامية, وما عليك إلا أن تقرأ كتاب الحقيقة الغائبة للهالك (فرج فودة) لترى كيف يحاكم المشروع السياسي الإسلامي من خلال الممارسات البشرية الخاطئة أو الروايات الكاذبة الملفقة، والتاريخ الذي يكتبه المنتصر قد لا يتورع عن ذكر سوآت من سلف أو اختلاق احداث كاذبة لغرض التشويه، ثم يأتي خصوم الفكر الاسلامي والسياسة الاسلامية ليوغلوا في تفحيش هذه الروايات وتقعيرها.
إن الذين يستعيدون التاريخ وقضاياه إنما يعيدونها لمجرد بناء الذات وملء الفراغ، وشغل الرأي، هذا الجدل المستنزف لكل جهد الأمة، المربك لكل تطلعاتها، يتم والعالم من حولنا منكب في مختبراته، مهتم بمخترعاته، يعيش سباقاً مذهلاً في مجال الفضاء، والإنسان، ودقائق المخلوقات، مما مكنه من الانتصار على أشياء لم تكن تخطر على بال البشرية، لقد سيطر على سنن كونية طرحها الله للناس ودعاهم للتفكر فيها قال تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم .
وكل هذه الاكتشافات التي حققها الغرب مندرجة ضمن ظاهر الحياة الدنيا، الذي علمه من اجتهد، وجهله من تخاذل, قال تعالى: يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا , وهذا العلم مع عظمه في نفوس العالم قليل لا يكاد يذكر إلى جانب ما يزخر به الكون من أسرار قال تعالى: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا , وقال: وفوق كل ذي علم عليم .
لقد جاء الغرب بما يثير الدهشة والإعجاب في مجال الطب والفلك والتكنولوجيا وسائر العلوم، وذلك كله إفراز الوعي المنظم والتفكير العميق الذي هو من مطالب الإسلام ومقتضياته, ولعل نظرة متأملة في الكهرباء، ووسائل الاتصال، والفضاء، والصناعات السلمية، والحربية، والكمبيوتر، و(جادة المعلومات) بكل ما فيها من عجائب، تؤكد أن هذا العالم مسيطر على وعيه موجه لهذا الوعي متجه صوب ظواهر الحياة الدنيا، والأمة الإسلامية أحق بهذا من الغرب وأقدر على تحقيقه، فالإسلام يحث على العلم، ويمجد العلماء، ويعلي من شأن المكتشفات، ويدعو إلى اعداد القوة: قوة السلاح وقوة العلم وقوة الاقتصاد إذ الاسلام عقيدة وعبادة وسلوك ومنهج حياة ولا يمكن توصيله إلا بقوى متعددة المجالات, والغرب لم يتمكن من السيطرة على هذه الأشياء إلا بعد أن تخلص من هيمنة دينه الكنسي المحرف الذي يتخوف من العلم، ويحرق الكتب، ويتمسك بسلطة المتدين، وما نتميز به أن ديننا يدفعنا إلى العلم وإعداد القوة والقراءة وهي مصدر المعرفة ومكمن الوعي، والأمر بالقراءة مؤشر ثقة بالدين، وكل الفضائل مطالب إسلامية يحثنا عليها، ويدعونا إلى السيطرة على ما يمكن إدراكه من السنن الكونية, والنصرانية المحرفة تمنع من ذلك وفترات التنوير حررت الغربي من خرافة الدين المحرف، ومما هو محزن تصور بعض الفترات التاريخية المعاصرة على انها فترات تنوير على شاكلة التنوير الغربي، والعلمانية تمارس الفعل نفسه لتنحية الدين ظنا منها انه المعوق، وأنه العقبة في طريق العلم والحضارة, ومما هو داخل في غياب الوعي أو في خلله تصوره الدين الإسلامي كسائر الأديان الوضعية أو السماوية المحرفة، وتوهم البعض أن التقدم لن يتحقق إلا بنفي الدين على شاكلة ما فعله الغرب, وما علم أولئك، أن التفكير فريضة إسلامية، وان العقل مناط التكليف، وأن العقل والتفكير لايقبلان الوضع القائم الذي قبلت بمثله المسيحية حين سيطرتها مما اضطر أهلها إلى نبذها واستبدالها بالعلمانية والعلمية.

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved