| مقـالات
في هذه المرة نلتقي بشياه أبي القاسم الشابي في مشهد رومانسي عذب عذوبة الطبيعة التي وصفها الشاعر ورسم عليها لوحاته الفنية الرائعة، اما الشياه فلا اعلم عنها إلا انها شياه محظوظة خلدها الشابي بشعره، واما شاعرنا الشابي فهو اشهر من أن يعرّف,, هو ابو القاسم بن محمد الشابي بتشديد الباء ولد بتونس سنة 1909م وتوفي بها سنة 1934م، تهيأت له النقلة من مكان الى آخر داخل الايالة التونسية مما اعطاه زخما فنيا متميزا، ووسع من تجاربه, ويشرح الشاعر قصته مع شياهه في قصيدته من اغاني الرعاة فيقول نثرا في مقدمتها: حل الشاعر صيفا بعين دراهم، من الشمال التونسي مستشفياً، وهناك فوق الطبيعة العذراء الساحرة والغابات الملتفة الهائلة والجبال الشم المجللة بالسنديان، قضى عهدا شعريا وادعا خالصا للشعر، والسحر، والاحلام، وفي القصيد التالي صورة صغيرة من صور الحياة بين تلك الجبال، والأودية والغابات.
بداية يلفت نظرنا هذا العنوان بكل مكوناته، فمن الناحية الشكلية اي صورة رسم الحروف نجد العنوان مبدوءا بحلقة الميم، ومنتهيا بحلقة التاء المربوطة، كما تتقابل فيه الغين والمدة بعدها في اغاني بالعين والمدة بعدها في الرعاة ، وتتقابل ألفان في أغاني وألفان في الرعاة , هذا التماثل التشكيلي من ناحية رسم الحروف، انعكاس لتشابه عناصر الطبيعة أمام عيني الشاعر على ارض الحقيقة والواقع وايحاء به.
ثم انظر معي مرة اخرى الى العنوان لتجده مؤلفا من ثلاث كلمات، تدل كل واحدة منها على مزيد من الثراء والكثرة والخصب، فالرعاة جمع تكسير دالٌّ على التكثير على وزن فُعَلَة ، فالاغاني اذن ليست اغاني راعٍ واحد متفرد نشاز، وليست لمجموعة صغيرة من الرعاة مآلها النفاد، بل هي اغاني رعاة كثر، إذا نام منهم أحد صحا أحد، واذا غاب احد او تغيب نهض آخرون, والأغاني أيضا هي جمع كثرة، بل كثرة الكثرة، لأنها صيغة منتهى الجموع أفاعِل , فنحن إذاً أمام معين من الاغاني لا ينضب، تظل انغامه تتواثب وألحانه تتقافز في حيوية دافقة لا يعضد شجرها ولا يُختلى خلاها أي لا يقطع نباتها وتأتي كلمة من في العنوان داعمة لكل ما يؤسسه من دلالات فهي للتبعيض هنا، وهذا معناه ان الشاعر يعلن انه عاجز عن تصوير كل المشاهد الرعوية، وانه مهما اجتهد في نقلها فلن يستطيع ان يقدم سوى جزء يسير منها، وبعضها او بعض البعض، وتتضح دلالة هذا التبعيض في عبارة مشابهة للمتنبي، وذلك حين يقول:
وما الدهر الا (من رواة قصائدي) إذا قلت شعراً اصبح الدهر منشدا |
وقد قسم الشابي قصيدته الى عشرة مقاطع، كل مقطع اربعة ابيات برويٍّ مغاير، من بحر الرمَل المجزوء، اما كونها رمَلا مجزوءا فذلك يتناسب مع حياة الرعي وتنقّل الشياه، واما كونها برويٍّ مغاير فربما كان للدلالة على تغاير المراعي ومشاهد الطبيعة، او للدلالة على الحرية والانطلاق في عالم الطبيعة الساحر اللامحدود, واختار لرويّة السكون ليدل على ايقاعات القفز المتكرر للشياه، وثغائها الممتزج مع انغام شبابات الرعاة واغانيهم المتوالية المتواثبة.
ولماذا كل مقطع بأربعة ابيات؟ هل لأنه كان يستحضر في ذهنه فصول السنة الاربعة وعلاقتها بالطبيعة في عين دراهم ؟ او لأن الشياه وهي مدار حديث، وسيلة وغاية وهي من ذوات الاربع؟ ولأنه مستحضر في مخيلته رباعية اخرى متمثلة في الطبيعة، والراعي، وشياهه، والشاعر؟ قد يكون هذا الاحتمال او ذاك، وقد تكون حاضرة جميعا في احساسه، لكن الذي يهمُّنا منها هو آثارها على النص، اذ نجد هذه الروح الرباعية تتجلى في مواقع اخرى، فالفاعلية في المقطع الاول للصبح، والربى، والصبا، والنور، كما نلحظ انه مفتتح بفعل رباعي هو أقبل ، ومنتهٍ كل بيت فيه بموصوف تتلوه صفة مجرورة على وزن فاعلة: الحياة الناعسة الغصون المائسة الزهور اليابسة الفجاج الدامسة .
يقول الشاعر في مطلع القصيدة:
أقبل الصبح يغني للحياة الناعسه والرُّبى تحلم في ظل الغصون المائسه والصَّبا تُرقص أورا ق الزهور اليابسه وتهادى النور في تل ك الفجاج الدامسة |
ولا أكتمكم أنني أرفض كلمة اليابسة هنا، فهي ان كانت من الشاعر فهي نشاز، وان كانت من جامع الديوان فوَهَمٌ بفتح الهاء والمكان لكلمة اخرى في مقدورها ان تنهض بشكل افضل واجمل برسم الصورة، كما أنها تساعد على تحقيق التربيع الذي ذكرنا انه ينشر ظلاله على المشهد، وهي كلمة البائسة او اليائسة لنجد انفسنا أمام ايقاع خفي يتمثل في عدد الحروف الحلقية 12 حرفا ، يقابله في الجهة الاخرى وبشكل مختلف في التموضع 12 حرفا من حروف الصفير ، والعدد 12 على كل حال تضعيف للعدد اربعة، فهو يتحرك اذن ضمن التربيع، هذا بالاضافة الى ان اليبوسة لا تتناسب مع الترقيص.
واذا ما تمادينا في تأمل البنية اللغوية لهذا المقطع، ألفيناها زاخرة بكمٍّ من الدلالات تسهم في تحقيقها الاوضاع النحوية والصرفية، فالفاعل في البيت الاول والرابع، اسم ظاهر معرف بأل، وثلاثي على وزن فُعل لأن اثر الصباح الضياء ، والنور الضياء أيضا ظاهر لا يحجبه شيء، ولا يحول دون انطلاقته ربىً ولا صبا، ولا غيرهما، فهو يحف بالحياة، بالغابة، بالمرعى، من كل الجهات، ويضيء فجاجها ومساربها، ولهذا جاء هذا الفاعل المظهر في البيت الاول بداية والرابع نهاية أما الإضمار ففي الوسط، ففاعل تحلم مضمر تقديره: هي، يعود على الربى، وفاعل تُرقص تقديره أيضا: هي، يعود على الصَّبا، ولاحظ معي الاتفاق في الاضمار، والتقدير هي والباء نطقا في الربا والصبا، اتدري لمَ جاء الفاعل في هذين الفعلين مضمرا؟
ربما لكون الحلم شيئا غير محسوس، ولكون الصَّبا ريح رقيقة لم تعتد ان تحرك الاغصان بعنف، بل هي على العكس تماما تداعبها، وتهزها هزا لينا وديعا.
وإلى لقاء مع القصيدة وهذا المقطع.
د, محمد العيد الخطراوي
|
|
|
|
|