| شرفات
قيل إن الزوجة الشابة لم تكن مخلصة أبداً لزوجها ولذلك انتحر، وعندما صارت أرملة لم تعبأ بشيء,, تمارس الهوى المباح ,, مرحة كما هي,, تكتب القصص وتقيم صالونا أدبيا في مدينة فيمار، بينما مكث الابن آرثر في مدينة دانتزج يحافظ على تجارب الأب ويفكر محزونا كأنه هاملت آخر في أسى أبيه وعار أمه!.
لم يعد بينه وبينها سوى البغض,, سوى الكراهية المتبادلة عبر الرسائل,, تصف رسالته للدكتوراه بأنها تبدو ككتاب في العقاقير، وهو يرد عليها بأن كتبها ستندثر حتى من أكوام الزبالة ,,,!
لقد سممت كراهيته لأمه معنى الحياة بداخله وجعلته يكره البشر جميعا,, ويخشاهم جميعا,, فهو ينام وتحت وسادته مسدس محشو بالرصاص، وأبداً لا يسمح بتسليم ذقنه لموس الحلاق، وحينما يذهب للعشاء خارج منزله يحمل معه قدحا يشرب منه حتى لا يلمس بشفتيه كوب غيره ,, يجلس في مكتبه ساعات طوالا وفي فمه غليون طوله خمس أقدام يدور من الذقن الى الأرض كأنه آلة موسيقية ذات تلافيف، حتى يتيح للدخان أن يبرد الى درجة صالحة قبل أن يبلغ الحلقوم.
إن شعاره الدائم وراء تلك التصرفات الغريبة ينص على أن الاستسلام للخوف، خير من الاستسلام للإيمان, وبسبب حساسيته المفرطة من الناس، ومزاجه الكئيب المعتم، كان سليط اللسان مع الآخرين، شديد التبرم من استغلاق نفوسهم، لدرجة أنه تشاجر مرة اثناء إقامته في برلين مع صاحبة النزل، ودفعها بعنف لتسقط وتصاب بجرح بالغ، واضطرت تلك المرأة المسكينة ان ترفع الأمر للقضاء لأن ما أصابها يمنعها من كسب عيشها فيما بعد، وقد ألزمت المحكمة شوبنهار البخيل جدا أن يعول المرأة بمبلغ شهري طيلة حياتها,, ولسوء حظها كانت امرأة منيعة الروح عمّرت طويلا قبل ان يتنفس شوبنهار الصعداء ويتسلم شهادة وفاتها وهو يقول: قضى الحلس، فزال النحس !
لم يسلم أحد من لسانه السليط حتى زملاء الفكر,, فمثلا علم أن هيجل أكبر وأشهر عقل في ألمانيا سوف يحاضر في إحدى القاعات، وعلى الفور عقد هو أيضا محاضرة في نفس التوقيت وبدأها ساخرا بأن أمثال هيجل بما أتوا به من ميتافيزيقا عقلية يجب ان يبعدوا من عداد الفلاسفة,, كما نفى من المعبد قديما مبدلو النقود! وبطبيعة الحال تضايق الحضور من أن يخرج هكذا على آداب الزمالة نحو استاذهم المبجل.
إنه مشحون ضد الجميع,, ولا يعرف السر في أن يعيش مغمورا على هذا النحو، وهو القائل: لقد ولدت لأطبع معالم عقلي على الجنس البشري أجمع، ومع ذلك فأنا مضطر أن اسمع ضجيج الشهرة يدوي بأسماء الاخساء التافهين,, أنا الذي رفعت حجاب الحقيقة أعلى مما رفعه أي مخلوق آخر من بني الإنسان.
عاش شوبنهار بعيدا عن أنظار العالم، في مدينة صغيرة وداكنة هي فرانكفورت، تسير به السنوات من خلال نظام يومي مطرد لا يتبدل فيه شيء مهما صغر: حمام بارد في الفجر، قهوة مركزة للفطور، تجهم لصاحبة المنزل ولعن لها، وثلاث ساعات يقضيها في الدرس والكتابة، ثم يعزف على الناي قبل الغداء، والعشاء في فندق انجلترا ثم العودة الى المنزل ويتناول قدحا آخر من القهوة, وقبل أن يأوي الى مخدعه يطالع قليلا كتابات المتصوفة الهندوس.
واعتاد قبيل المساء ان يقوم بنزهة يصحبه فيها كلبه الصغير واسمه أتما أي روح العالم وكانت شوارع فرانكفورت تتداول خرافات الكلب بنفس القدر الذي تتداول به خرافات صاحبه، بل ان أطفال الجيران يطلقون على الكلب اسم شوبنهاور الصغير ,,, !!.
حياة رتيبة، ركن صاحبها الى الكسل والأحلام، وترك فلسفته تختمر تدريجيا في عقله، فهو إما يجلس الساعات الطوال في متحف أو يذرع شواطىء الألب ذهابا وجيئة وقد تصلبت ملامحه كأنه مجنون، لدرجة أن احد الخدم رآه في حديقة برتقال يهمس للشجيرات ويميل بأذنه الى زهر البرتقال فسأله: من تكون؟ فنظر اليه شوبنهاور وقد علاه الارتباك: لواستطعت أنت أن تخبرني من أنا، لطوقتني بمنة كبيرة!.
كتب في مذكراته يقول: إن العالم هو ما أفكر فيه، والشمس إنما توجد كما أراها، والأرض إنما توجد كما أحسها، والإنسان نفسه حلم من الأحلام، ويحاول شوبنهاور أن يفسر الحلم ويحل لغز الوجود والموت، من خلال قراءاته الواسعة في التاريخ والطبيعة والأجناس والتشريع والفلك والكيمياء والشعر وغيرها من معارف العصر، الى ان بلور نظريته في كتابه الشهير: العالم إرادة وفكر إذ يعتبر الإرادة هي القوة المسيطرة المتسلطة، وليس العقل إلا خادما لها، فنحن لا نريد الشيء لأن الفكر يبرر هذه الإرادة، وإنما نحن نخلق المبررات للشيء لأننا نريده .
إن الإرادة في نظره هي التي تحفر الحفر في الجبين، وتبني الأوردة لدورة الدم، والإرادة هي التي تشكل المخ، وإرادة الأكل هي التي تشكل الفم والأسنان والحلقوم، وارادة التكاثر هي التي تجذب النبات الى الشمس,, إن الحياة هي الإرادة الغريزية في البقاء، لذا كان من ضروراتها التنافس والتنازع والهدم.
ولا يعني هذا انه يتناول مفهوم الإرادة من منظور إيجابي، فالإرادة لديه بلا دافع او غرض، مجرد جهاد أعمى غير ذي جدوى، يظل على المدى، ويتعاقب فيه النصر والهزيمة، والحياة والموت، وإرادة الحياة تدفع كل شيء في النهاية الى الهلاك، فيقع كل إنسان آخر الأمر فريسة لإرادة الديدان,الماضي لديه زمن مات، والحياة موت مؤجل,, كما أن المشي وقوع مؤجل,, وكل نفس تنفسه ما هو إلا محاولة لدفع الموت، ولكنها لا تجدي، لأن الموت يطلبنا من يوم ان نولد! هذا التشاؤم والعدم لا يعني على الاطلاق أنه كان شخصا لا مباليا، أو لا يحب الحياة، بل على النقيض من ذلك كان يحب متع الحياة حبا جما، فمثلا عندما انتشر وباء الكوليرا في برلين كان فيلسوف التشاؤم والعدم أول الفارين الى إيطاليا، وعندما جلس يوما يتناول وجبته في أحد المطاعم رأى رجلا لا يعرفه ينظر إليه مشدوها وهو يقذف بالطعام الى جوفه قذفا، فقال له شوبنهاور في هدوء: سيدي إن إقبالي على الطعام يدهشك فيما يبدو, لا شك أني اصيب من الطعام ثلاثة أمثال ما تصيب أنت ولكني كذلك صاحب مخ يعدل ثلاثة أمثال مخك,, ومن نوادره الغريبة أنه وهو في المطعم كان يضع من يوم الى يوم قطعة من الذهب بجانب صحفة طعامه, وكانت نفس الخادم تتقطع حسرات حين يردها الى جيبه بعد ان يفرغ من وجبته, ولما سُئل عن هذه العادة العجيبة قال: نذرت للفقراء هذه القطعة الذهبية إذا سمعت من الجالسين الى المائدة شيئا أكثر أهمية من حديث النساء والكلاب والخيل.
كان رغم شحه يحب الراحة والمتعة، وفكر في الزواج في مراحل كثيرة من حياته، وخاصة أنه ارتكب أكثر من حماقة عاطفية، وأنجب ابنا غير شرعي ثم رفض الاعتراف به في عناد، بل رفض اصطحاب النساء في مشوار الحياة قائلا: لو أني ملك لكان أول أمر أصدره: ان اتركوني وحدي, ورأى ان العشاق مجرد خونة لأنهم سبب ما يعانيه الجنس البشري من فاقة وعناء، ولو أنهم لم يتزوجوا ولم ينجبوا لبلغ العالم نهايته سريعا.
وحين أوشك على السبعين وصار فيلسوفا شهيرا ظل كما هو متوحدا مع نفسه، يسير بعينين تقدحان الشرر حتى جبين ضخم، ويتهكم على تكريمه الذي تأخر كثيرا، وكأنهم تركوه وحيدا طيلة العمر ثم جاءوا أخيرا يشيعونه الى قبره بالطبل والزمر, وأكد لأصدقائه إن صح أن له أصدقاء انه سيعيش مائة عام كما تنص تعاليم المتصوفة الهندوس، رغم ما يعانيه من سعال متقطع والتهاب رئوي,, وذات صباح نادت عليه صاحبة النزل: دكتور شوبنهاور هل أخذت حمامك البارد؟ لم يرد، وذهبت السيدة تعد له قهوة الصباح ثم عادت تنادي عليه فوجدته ميتا ,,, !!.
شريف صالح
|
|
|
|
|